من منا لا يتابع خبراً في جريدة أو مقالاً مهماً في إحدى الصحف، وآخرون ينبهرون بأسلوب الكاتب وطريقة سرده للوقائع أو الإخبار والكلمات، وكلما كان شكل الصفحة مرتباً مراعياً للقواعد الصحفية، دارساً حتى للأماكن التي تجذب عين القارئ وأيًا منها يبدأ وإلى أين ينتهي فتضع له الأخبار المهمة على يمين الصفحة أو يوضع مقال مهم في أخر صفحة في الجريدة لمن يمرون بالقراءة سريعاً وليس لديهم الوقت لتفقدها سطراً بعد سطر.
كل هذه المميزات يقف وراءها أفراد لا بد وأن يكونوا غاية في الدقة والمهارة اللغوية ودارسين جيدين لما يجب أن تكون عليه تقسيمات الصفحات بالجريدة أو المجلة، أو ما أطلق عليه «فن هندسة الكلمات» ووضعها في إطار يناسبها، وتقدم كهدية سلسة وسهلة تمتع عين القارئ وتحفزه على المزيد من القراءة والمتابعة المنتظمة للكاتب والجريدة فلا يكتفي بالخبر أو المعلومة وإنما يسترسل في كل جزء من هذا البناء الورقي الذي زين له كي يتجول فيه بلا معوقات أو حواجز ترهق عينيه أو تفصله عما كان يقرأ.
هؤلاء الأفراد أو مهندسو الكلمات تصل إليهم المقالات أو الأخبار بصورة في بعض الأحيان غير مرتبة وفي أحيان أخرى بخط غير مقروء أو بصياغة عامية وفي بعض أو كثير من الأحيان بأخطاء لغوية إذا ما كان هناك ناقل للخبر غير متمرس بالعمل الصحفي، فيقومون بإعادة الصياغة أحياناً وترتيب الجمل ووضع الحروف في أماكنها الصحيحة لتتحول من مجرد كلمات أو أحداث أو مقالات إلى تأريخ لوقائع وإثبات لحقائق وأحداث يمكن الرجوع إليها كونها مدونة ومثبوتة في صحيفة أو مجلة نشرت وقرأها آلاف الأشخاص، فيتحول الخبر أو الحدث أو المقال بعد هندسته ووضع عنوان جذاب له وصياغته في قالب إلى أحد الأدلة أو الثبوتات التي يستند إليها الأشخاص أو المؤرخين إذا ما قاموا بسرد هذه الوقائع أو ما جاء بالمقالات أو الأخبار التي نشرت بالفعل. فتعريفات التحرير تعددت، ومنها أنه الفن الذي يقوم الصحفي من خلاله بالتعبير عما يدور أو يجري في المجتمع من وقائع أو أحداث من خلال أشكال فنية تتبع قواعد وأسساً معينة لا بد أن يعيها الصحفي جيداً، أو هو فن تحويل الوقائع والأحداث، كما شاهدها وعاينها الصحفي أو استقاها من مصادر مختلفة، إلى كلمات مقروءة في قوالب فنية تتخذ أشكالاً متعددة، تحقق في النهاية وظائف الصحافة المختلفة من معرفة وتثقيف وتوجيه وتسلية وترفيه.
كما تم تعريف التحرير من منطلق فن الكتابة على أنه هو: (أحد فنون الكتابة النثرية الواقعية، وهو عملية تحويل الوقائع والأحداث والآراء والأفكار والخبرات في إطار التصور الذهني والفكري إلى لغة مكتوبة مفهومة للقارئ العادي).
ولو تفقدنا عملية التحرير الصحفي في السنوات التي أعقبت ثورة شبكات التواصل التي اعتبرُها إحدى وسائل الاتصال الأحدث والأسرع والأوقع، فسنجد أن جودة العملية التحريرية في هذه الوسائل انخفضت بشكل غير مسبوق.
فأصبح من يحمل هاتفاً ينقل عبره خبراً مكتوباً أو عدة جمل متراصة بلا رابط ولا شكل جمالي مملوء بالعديد والعديد من الأخطاء، تنتشر في بضع ثوانٍ حول العالم وليس في مجتمعه فقط، فأصبح هناك نوع من التخبط والعشوائية انتابت العملية التحريرية التي تراجعت بشكل واضح.
مع انتشار وسائل نقل المعلومات السريعة والآنية في الوقت الحاضر مع نوع من انخفاض الوعي بضرورة تحري الدقة في انتقاء الألفاظ والتعبيرات والكلمات ذات النطق الصحيح.
وهنا تقع المسؤولية على جهات عدة في محاسبة من يبث أفكاراً وكلمات وألفاظاً غير معبرة عن الواقع المحلي أو تخرج بالموضوعات المنقولة عن سياقها أو استعمال المفردات المشوهة في نقل الأحداث وضرورة إيجاد نوع من ترقية الذوق العام، وتقديم نماذج لنقل الأخبار والموضوعات ممن يعتبرهم أفراد المجتمع قادة للرأي أو نماذج يحبون محاكاتها وتقليدها في الرقي بهذه العملية ومحاولة جعلها أداة فاعلة في السمو بأفراد المجتمع من ذوي الخبرات والثقافات الأقل والأخذ بأيديهم ليكونوا أفراداً فاعلين وناقلين لكل ما هو إيجابي من أخبار وأقوال وحتى قصص وحكايات تنقل بطريقة يراعى فيها الحفاظ على الذوق العام والتقيد بضرورة استخدام ألفاظ وكلمات تصف كل حدث بطريقة واقعية وسلسة وصحيحة.
وبعيداً عن وسائل الاتصال الحديثة التي تحدثنا عنها في السطور السابقة فإنه لابد وأن نتعرف كذلك على المهام التي يقوم بها مهندسو الكلمات أو مُحَرِّرُ الجريدة، فلكي تكون محرراً صحفياً دقيقاً ومهندساً قادراً على وضع كلماتك في بناء صحيح فإنه لابد وأن تتأكد من دقة بيانات النص الصحفي، ويتم ذلك عن طريق التشاور مع الكاتب الصحفي أو كاتب المقال وأن يكون للمحرر الصحفي عدة مصادر يتأكد فيها من صدق المعلومة بطرق عدة.
أولاً: أن يكون على إطلاع دائم ملماً بالأحداث والوقائع المختلفة، وأن يكون دائم التحديث لمصادره عبر شبكات الإنترنت أو مراكز المعلومات المتعددة خارج نطاق الصحيفة أو المجلة التي يعمل بها.
ثانياً: اختصار الكلمات أو الجمل أو الفقرات غير الضرورية.
ثالثاً: إعادة صياغة النص الصحفي كاملاً لصقله لغوياً.
رابعاً: إيجاد نوع من التناسق في أسلوب الكتابة.
خامساً: استبدال وتبسيط بعض الكلمات أو الجمل أو الألفاظ التي تتسم بالصعوبة على القارئ العادي.
سادساً: حذف بعض الكلمات أو الجمل أو الفقرات التي قد تشكل جريمة تعاقب عليها قوانين النشر، أو تتعارض مع الذوق العام.
أخيراً: مواءمة النص الصحفي ليتناسب مع المساحة المحددة للمقال بالجريدة أو المجلة.
استكمال النص الصحفي ببعض المعلومات والبيانات التي تكمله من ناحية المضمون، وتجعله يغطي كل جوانب الفكرة. وفي بعض الأحيان الاستعانة بالصور المعبرة عن الحدث أو موضوع المقال إلى جانب ضرورة وضع الصورة الخاصة بصاحب المقال توثيقاً لكلماته وحفاظاً على حقوقه الفكرية كذلك ينطبق على ناقل الخبر، فمن أهم حقوقه أن يوثق الخبر باسمه، وأنه صاحب السبق الأول في نقله وإذاعته.
كذلك إذا كان عنوان النص ليس شارحاً للمضمون أو وافياً لكل ما جاء فيه أو مغايراً للمعنى، فمن حق إدارة التحرير في الجريدة وبالاتفاق مع كاتب النص أو الصحفي الناقل للخبر أن يقوموا بإعادة الصياغة لعنوان المقال أو الخبر المنقول. مهام غاية في الدقة، فالمحرر الصحفي يمسك بعصا رفيعة ذات طرفين في غاية الأهمية الطرف الأول ما كتبه الصحفي أو كاتب المقال أو ناقل الخبر وضرورة إيصاله للقارئ، كما قصده كاتبه، وبيّن كيفية وصوله، والشكل الذي يصل فيه والطريقة التي يصل بها إلى القارئ دون تقصير في حق الكاتب أو القارئ إلى جانب تداخل عدة عوامل منها: سياسة الصحيفة، الأعراف، العادات، التقاليد، لغة التفاهم، لهجة المجتمع، الفروق بين ساكني الدولة التي تجمع عدة ثقافات أو أطياف مختلفة، فيكون الأمر عسيراً على إدارات التحرير في مختلف الجرائد والمجلات، خصوصاً في وطننا العربي الذي تعتبر الكلمة فيه، في بعض الأحيان، سلاحاً أو أداة غير مباشرة تستخدم عند البعض لمحاولة زعزعة استقرار المجتمع أو بث أفكار مغلوطة وغير صحيحة وربما بث أكاذيب في صور حقائق لهذا السبب تعتبر إدارات التحرير في الصحف والمجلات والبرامج التلفزيونية والإذاعية من أدق الإدارات والتي لابد وأن ينتقى من يعملون بها على أعلى مستوى مهني وثقافي، وأكثر إلماماً بثقافة المجتمع والقوانين والأعراف الدينية التي تحكمه للوصول به إلى أعلى مراتب الرقي، واكتمال أوجه الرسالة التي وجدت من أجلها تلك الإدارات الصحفية التي تستحق لقب إدارة هندسة الكلمة أو إدارة التحرير.