محمد سليمان العنقري
منذ أن تفشى فيروس كوفيد - 19 في العام الماضي والعالم يعيش حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي والصحي والاجتماعي عموماً وبالتأكيد أن ما اتخذ من إجراءات منذ بداية الأزمة كان بمنزلة اللقاح لتحصين الاقتصاد العالمي، الذي بدأت مناعته تتحسن وتقاوم الصدمات التي توالت منذ بداية هذه الأزمة، لكن بالمقابل فإن هذا الفيروس لم ينته حتى مع الكثير مما عمل لاحتوائه، فهو يتحور بكثرة ولكن بعض هذه التحورات تمثل قلقاً للمجتمع الدولي، نظراً لكونها تبقيه حياً تزداد الإصابات فيه حتى لو كان ضعيفاً أحياناً بآثاره، فالهدف هو إيقافه تماماً عن الانتقال بشكل واسع بين البشر ولعل التحور الأخير الذي قدم من جنوب إفريقيا للعالم الذي أطلق عليه اسم أميكرون يعد آخر الاختبارات الحقيقية لما وصلت له البشرية من قدرة على لجم آثاره ومقاومته سريعاً.
فهذا المتحور ما هو إلا اختبار حقيقي لمناعة الاقتصاد العالمي وقدرة الدول على إدارة المشهد بمواجهته متسلحين بخبرة واسعة بتفاصيل الفيروس الأساسي والمتحورات السابقة وكم هائل من المعلومات والتجارب عنه، إضافة لإنتاج عدد كبير من أنواع اللقاحات في العديد من الدول التي استخدم منها ما يقارب 8 مليارات جرعة حتى التاريخ الحالي، اضافة لإعلان الشركات المصنعة قدرتها على تكييف اللقاحات التي تنتجها مع أي تحور خلال مدة قصيرة لا تستغرق أكثر من أسابيع قليلة وبالرغم من أن أميكرون تسبب بحالة ذعر في العالم وأثر على الأسواق المالية وأسواق السلع، لكن يبدو أن القدرة على استيعاب هذه الآثار أصبحت مرتفعة وإن كان الجميع ينتظر مزيداً من التقارير حول طبيعة التحور وكيف سيتم التعامل معه من ناحية اللقاحات، هل الحالية تكفي للمناعة ضده أم أنها تحتاج لتعديلات وأيضاً الانتباه لضرورة التركيز على تحصين المجتمعات عموماً وخصوصاً الدول الفقيرة التي بعضها لم تصل نسبة المطعمين فيها لأكثر من 3 في المائة فيبدو أن إلزامية التطعيم بالكثير من الدول أصبحت هي الحل والاتجاه الذي سيسود، فكما قال الكثير من الخبراء بعلم الأوبئة أن هناك ضرورة لالزامية التطعيم، فهو ليس خيار فرد إنما ضرورة لتحصين المجتمعات لأن المتحورات حسب رأيهم تظهر من الأجسام التي ليس لديها مناعة، أي لم تحصل على التطعيم فلا يمكن للعالم بعد اليوم أن يبقى تحت ضغط تحورات هذا الفيروس.
فالاقتصاد العالمي استنفد كثيراً من الذخيرة بالسياسات النقدية والمالية حتى خرج من الركود الاقتصادي الذي شل حركته العام الماضي وتسبب في خسائر بتريليونات من الدولارات وفقد أكثر من مائة مليون عامل في العالم وظائفهم وحتى تاريخنا الحالي لم يستعد الاقتصاد عالمياً تشغيل كافة قطاعاته، كما كان عليه الحال قبل تفشي فيروس كورونا الذي تسبب مع الإغلاقات الضخمة لشهور عديدة للكثير من المنشآت بتراجع الإنتاج العالمي من السلع والخدمات قياساً بحجم الطلب مما أثر في سلاسل التوريد وتسبب بارتفاع الأسعار وهو ما رفع معدلات التضخم لأرقام لم تشهدها الكثير من الدول باقتصادياتها منذ 30 عاماً ولذلك فمن المستبعد غالباً أن يعود العالم للمربع الأول بمواجهة متحور أميكرون والقيام بإغلاقات واسعة لأن نتيجة ذلك ستكون ركوداً تضخمياً واسع الانتشار وطويل الأمد حتى تتم معالجته وقد يتسبب في نهاية الأمر بكوارث اقتصادية لا يمكن الخروج منها بسهولة وببدو أن موقف الدول الواضح إلى الآن هو القيام بإجراءات احترازية محدودة تركز على تسريع أخذ اللقاحات وتوعية الناس وإلزامهم بارتداء الكمامات في الأماكن العامة والاحترازات الشخصية الأخرى، خصوصاً أن لدى المجتمع الدولي اليوم خبرة واعتياداً واسعاً على تقبل هذه الإجراءات دون توقف للحياة والأنشطة الاقتصادية حتى في أسواق المال والسلع يتم أخذ إجراءات من شأنها أن تساعد على استقرارها كما حدث قبل أيام في أسواق النفط بعد الهبوط الكبير الذي حدث قبل عشرة أيام مع الإعلان عن المتحور الجديد لتعود الأسعار للتماسك بعد خطوات أخذتها أوبك + مبنية على قراءة أولية لأثار هذا التحور حيث استمرت بخططها لزيادة الإنتاج شهرياً دون تغيير حسب الخطة المعلنة سابقاً والإبقاء على الاجتماع للجنة الوزارية للمجموعة قائماً للتحرك سريعاً في حال كان هناك ما يستدعي أخذ أي قرار يبقي اسواق النفط متوازنة فمجمل ما تقوم به الدول من خطط وبرامج لدعم الاقتصاد العالمي وكذلك التعامل مع آثار هذه الجائحة وتطوراتها بعد تراكم الخبرة بتفاصيل الفيروس والتعامل معه ووجود لقاحات وعلاجات لمواجهته يمثل كل ذلك مناعة جيدة للاقتصاد العالمي.
التعايش مع هذا الفيروس حتى ينتقل تصنيفه من جائحة لمرض أصبح واقعاً والدول تمرست بما يكفي للتصدي له واليوم ليس بالأمس عندما بدأت الجائحة والعالم لن يعود لتلك المرحلة بنسبة كبيرة فلا يمكن التنازل عما تحقق من نجاح بالخروج من الركود الاقتصادي بسهولة والممكنات والأدوات لمقارمته طبياً واقتصادياً وادارياً قائمة وتزداد قوة كل يوم لكن بالمقابل هناك دور على كل فرد أن يلتزم بالتعليمات الصادرة عن الجهات الرسمية ولا يستمع لأي إشاعات فمعركة مواجهة الفيروس مسؤولية جماعية.