د.عبدالرحيم محمود جاموس
تعيش دول العالم في زمن التحولات السريعة، سياسية، اقتصادية، صناعية، تقنية، اجتماعية، وثورة معرفية وثقافية وإعلامية، بسرعة مهولة لم يسبق لها مثيل.
من يتخلف من الدول عن هذه التحولات سيكون في ذيل القائمة بين الدول والأمم، ويعيش في خارج إطار قانون العصر والمعاصرة، ومن يواكبها ويتَطور ويُطور أدواته ونظمه ووسائل كفاحه ويحافظ على قيمه الإنسانية في الحرية والكرامة، التي تحفظ للإنسان كرامته وتحقق له غايته في الأمن والاستقرار والنمو والرفاه والحياة الكريمة بما يليق به في الزمان والمكان، ومواكبة ظروف العصر، يكون معاصرًا ومحققًا لمتطلبات الحياة الكريمة وتحولاتها المختلفة.
إن من يتخلف من الدول والأفراد والمجتمعات عن ذلك التطور المحمود والمنشود والمطلوب، وينشد استنساخ ماض قد ثبت عجزه في الماضي بكل وسائله وأدواته وأساليبه، فإنه لن يلحق بحركة التحولات والتغيرات السريعة التي تفرض نفسها على حاضر ومستقبل الشعوب والدول والعالم أجمع، ويحاول أن يبقى بعيدًا عن غايات هذه التحولات والتغيرات، سيبقى محكومًا لقوى التخلف الماضوية، وقوى الشد العكسي في كافة مناحي الحياة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا وسلطويًا، المستفيدة من الأوضاع القائمة والراهنة...!
هنا يتموضع مركز جدلية التحول والتغيير والصراع، بين قوى ماضوية وهي أقلية في الغالب، تنتعش وتستفيد من الواقع الراهن، بل ارتبطت مصلحيا بماضويتها السياسية والثقافية والمعرفية والقانونية، ترى في معظم التحولات الواجبة تهديدا لنفوذها وسلطاتها ومصالحها، وبين أغلبية لابدّ أن تكون قد أدركت حقيقة مصلحتها في ضرورة التكيف والتحول والتغيير، والعمل على مواكبة روح العصر وما يقتضيه من تحول وتغيير في الوسائل والأدوات والنظم والقوانين، وأساليب الإدارة والحكم الناجع والناجح، لأجل تحقيق أهدافها وكرامتها وقيمها ومثلها وغاياتها الإنسانية من جهة، وتلبية احتياجاتها وغاياتها ومصالحها الضرورية، التي لم تعد تلك الأقلية المتحكمة المتنفذة قادرة على تحقيقها، أو حتى تحقيق التوازن والإنسجام بين استمرار مصالحها في النفوذ والهيمنة والاستحواذ من جهة واحتياجات ومصالح الأغلبية المحكومة والدولة بصفة عامة من جهة أخرى...!
حين ذاك قد لا تجدي كل المسكنات التقليدية والحلول الترقيعية لتسكين آلام الأغلبية وخداعها، واستمرار تضليلها، بما سبق من شعارات لا تتجاوز الماضي مهما كان جميلا، حيث عفا عليها الزمن وتجاوزها الواقع..!
فتندفع حينها الأغلبية إلى ميدان التذمر والتحرك فالانتفاضة، على تلك الأقليات السلطوية المتنفذة والمستحوذة والمتحكمة، والعاجزة عن فهم احتياجات الأغلبية المجتمعية، واستمرارية الدولة والحفاظ على وحدتها واستقرارها، واتخاذ ما يلزم من سياسات وإجراءات وتدابير قانونية، وإبداع رؤى سياسية واقتصادية تستجيب لمطالب الأغلبية في التحول والتغيير والحياة الكريمة...!
وإذا ما تفحصنا ما شهدته منطقتنا العربية وبعض دولها، من انتفاضات وثورات خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، سواء في موجتها الأولى أو في موجتها الثانية، فإنها كانت تشترك جميعها في هتاف وهدف واحد، نريد حياة كريمة، ومواطنة مصونة ووطن واحد سيد مصون، وبالتالي نريد دولة ناجحة ذات كرامة توفر الأمن والرفاهية للجميع..!
لا يمكن أن تتحقق الدولة الناجحة ذات الكرامة، إلا إذا احترمت فيها كرامة الإنسان الموطن، كونه إنسان ومواطن حر، وحماية الوطن وذادت عنه كل المخاطر والتهديدات، داخلية وخارجية، وحمت خيراته وموارده، واستثمرتها الدولة لصالح المواطن ولصالح الجميع، وليس لصالح فئة معينة، متنفذة متسلطة تسخر كل إمكانات وخيرات الوطن والدولة، وترهن كرامة الوطن والمواطن لحساب مصالحها واستمرار نفوذها فقط..
وتفقد المواطن والمجتمع، عنصر الكرامة والرفاه، وأبسط سبل العيش الكريم وتغتال أمل المواطن والمجتمع في الحاضر والمستقبل الأفضل..!
عندها يفيض الكيل وتنفجر الثورة والانتفاضة التي يختزن الواقع أسبابها، في وجه الأقليات المتنفذة والفاسدة والعاجزة عن فهم احتياجات الأغلبية المحكومة واحتياجات الدولة الناجحة ذات الكرامة...!
إذا جمعنا الشعارات التي نادت بها الانتفاضات العربية وغيرها من انتفاضات الشعوب العربية وغيرها، فإنها تبلورت وتمحورت حول هتاف وهدف واحد، يؤكد على ضرورة التحول والتغيير وتحقيق الرفاه والكرامة الإنسانية والحرية، ومواكبة روح العصر، والمشاركة في تقرير السياسات وتقرير المصير.. وألا يبقى الوطن والمواطن رهين رغبة أقلية فاسدة متحكمة، أهانت الوطن والمواطن، وعاجزة عن تحقيق أبسط شروط الدولة الناجحة والحياة الكريمة لمواطنيها..!
من هنا كان الغلاء والفساد والتسلط والتجبر وفقد الكرامة المحرك الأول لهذه الانتفاضات.
الشعوب تريد فعلا دولة ناجحة ذات كرامة، تتحقق فيها كرامة الوطن والمواطن.. رغم كل الاتهامات التي تكيلها السلط المتنفذة دائما في حق المنتفضين والمطالبين بالتغيير.!