د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
إنَّ نبض المجتمعات يحتاج إلى تتبع وتركيز دائماً؛ وقيادة الشأن المجتمعي ومصالح الناس من المحددات الأَوْلى بالنظر والفحص، فمازال الكرُّ والفرُّ على مضمار القيادة في جُلّ المؤسسات وخاصة الخدمية منها وكل ما يدور في مسترادها من بناء الخبرات وتطوير الأداء القيادي مايزال حديث الناس!! ونجزم أن توفر الخِبْرات ليس حَكَمَا على توفر جذور القيادة! فالخبرة لا يمكن أن تستنبت إدراك الصورة الكلية للواقع وما يجب الانتقال له إلا في مستويات إدارية محدودة التأثير والأثر؛ ويجب أن تعي المجتمعات أن تجارب القيادة دون الناجحة ليست مؤطرة بزمن دون آخر؛ أو مكان دون سواه ففي كل واد «بنوسعد»؛ ويبدو أن القيادات الوسطى كانوا ومازالوا يلتهمون الخريطة في أحاديث الناس والمجتمعات! وكل الطروحات غالبا ما تكون عن القيادة غير المنتجة! وما يزال مفهوم القيادة مغلفا بالتنظير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن الأطواد المهمة ما ذكره الفيلسوف warren حين قال «لا تصح القيادة إلا بقبول التابعين» والعبارة أراها جديرة بتمعن، وتبصُّر؛ لكن قد تفشل القيادة من ذلك النمط في الالتفاف على التابعين، واحتواء المضيء منهم بسبب التكبر والعجرفة؛ وعوامل أخرى سوف آتي على بعضها، فأدلف إلى حركة القائد؛ وهي نسيج ملموس في بعض المؤسسات وخاصة الخدمية منها، وحيث إنّ لكل مؤسسة قوانينها وثقافتها ورؤاها وأهدافها؛ ولعلنا نخاتل بعض صمتها؛ فعندما لا يتحرك القادة نحو أهداف المؤسسة؛ فنحن أمام نمطين؛ إما قائد مغرم بالأغلفة والعناوين! فحين يفقد القدرة على الغوص للأعماق يلقي لوم الفشل على أدوات الصيد، أو قائد أعمى يتحسس النتوءات، ولا يناقش الأفكار بل يهاجم أصحابها، وأشد ما يقضّ مضجع ذلك القائد الأفكار الجديدة، فيسعى لحرمان المرؤوسين من المعرفة, وبخاصة ذوو الإنجاز منهم، كما ينظر لهم بعين الريبة فينشر الخوف من سطوته بين المرؤوسين, وبذلك يشتت طاقاتهم ويصرفهم عن تحسين الواقع أو مجرد التفكير فيه.
يقول الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان للحجاج عندما كتب له يشتكي أهل العراق «إن من قوة السائس أن يتآلف المختلفون, ومن ضعفه أن يختلف المتآلفون» كما أن من المقاييس الحاكمة لذلك قدرة القائد على اختيار الحيّز الذي سوف يشغله ويقوده؛ ففاقد الشيء لا يعطيه؛ فذاك في حد ذاته جدول آخر لحفز المنابع، وإثراء المصبات؛ ومما يترتب عليه القياس أيضاً التخصص المعرفي في القنوات الفرعية للمؤسسة؛ وإلا لماذا التعليم الأكاديمي والأطروحات التخصصية، والتدريب على ممارسة التخصص في الواقع؛ لأن المعرفة حينئذ هي المفتاح لاستقبال أفكار المرؤوسين ودعمها ثم فرضها؛ وهنا تتحقق القدرة على التحول في المؤسسة, وترسية قواعد العمل المؤسسي. فالتحول يتم من خلال الإستراتيجيات، وليس من خلال إطلاق القرارات الإدارية، ولابد من الإيمان بأن إصلاح قلب المؤسسة أولى من علاج أطرافها لأن خواء القلب مميت!! ولأن الحصاد مرجعه إلى العمل وليس إلى الحقل؛ وكثير من القادة يتحركون ومناطيدهم محلقة في عالم النظريات، وغالباً هذا النمط تحتدم عنده الخطوط الحمراء وتصبح جبالاً وودياناً؛ ويتعسكر الوعي أيضاً، ويأبى الإطلالة على أي نافذة للتغيير استجابة من أولئك القادة للقوانين التي يلتقطونها خارج إطار مؤسساتهم، وسرعان ما تطيش سهامهم، وتصبح كعلامات الاستفهام والتعجب التي عادة لا تجد لها جواباً في سياق الطروحات، وبالتحديد النهايات المفتوحة فكل يكمل اللازم كما يحلو له وفق مقولة الوزير القائد غازي القصيبي -رحمه الله- في كتابه حياة في الإدارة «عبارة إكمال اللازم أي افعلوا ما شئتم».
فالقادة الذين يخالطون الميدان، ويخاطبونه بلغته, حتماً يزرعون الثقة عند العامة والخاصة في مقدرة القائد على إنزال الرؤى من السماء إلى الأرض بالفكر النير ومساندة المخلصين دون مناطيد.
وفي موقع آخر على خريطة القيادة وهي دوائر المرؤوسين قال علماء مبرزون في علم الإدارة قبل «إن أصحاب الكفاءة المتواضعة من قادة المؤسسات يستقطبون للعمل معهم من هم أقل منهم مهارة كيما يظهروا بمظهر حسن ولا ينكشف جهلهم «وأحسب أن ذوي الفكر والمهارة الذين يكثرون من رصد الثقوب في المؤسسة هم الأنفع على المدى البعيد للمؤسسة وللقادة أنفسهم.
وهكذا فإن أفق القيادة في المؤسسات أفق يغوي بالتوغل إلا من رحم ربي؛ ورفع مستوى خطاب المسؤولية دائماً ما تقابله رياح محذرة بحكايات تساقطت من هنا وهناك حتى أصبحت في بعض المؤسسات -ولن أعمم- شجرة عجفاء لا يستظل بها أحد، وإن سلمنا بحتمية التدوير والتغيير إيماناً بأن توجيه خطأ القرار له نتيجة أفضل من صوابه لأنه يأتي بعد تجريب، وكما يُقال التجربة خير برهان.
ويضيء معايير اختيار القيادات التنفيذية قوله سبحانه وتعالى في تحديد معايير القيادة بالقوة ثم الأمانة قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (26) سورة القصص..
وأختم بأن في خريطة القادة إشارات وعلامات، تجعل الدروب أكثر ثراء وخصوبة، وتمهد للخطوات الناجحة في البناء المؤسسي بإصرار واستبسال؛ فلابد من القضاء على الوهم الذي يلازم ضعاف القادة في بعض المؤسسات واستزراع التوازن النفسي والمعنوي والثقافي في قيادات تلك المؤسسات؛ ومواجهة الممارسات الخاطئة لتنكشف الحقيقة، وإلا فسوف تظل المؤسسات مشغولة بسطح القشرة فقط التي ترسم مصطلح القائد وتكتب فيه النظريات والأطروحات كما عبأتُ أنا سطور هذا المقال -عفا الله عني-.
بوح..
القيادة فن وإلهام واستعداد.