د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
سأل سماحةُ شيخنا صالح بن محمد اللحيدان حفظه الله وكتب أجره سماحةَ الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله: من أذكى من لقيتَ؟ فسكت قليلاً ثم قال: أذكى من لقيت الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
يصدق في سماحة الشيخ القدوة العلامة محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن ابن الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله جميعاً قول القائل:
إِن المكارمَ وَالمعْرُوفَ أَوديَةٌ
أحلَّه الله مِنْهَا حَيْثُ تَجْتَمِع
جمع الله له من الصفات في زمانه ما لم تجتمع لغيره, ومن أعظم ما تميَّز به رحمه الله في نظري المبادرة في تولي زمام الأمور فيما يتعلق بالقضاء والفتوى والتعليم, وصناعة الرجال, وتقديمهم لولي الأمر, وغيرها من الصفات التي يندر اجتماعها في إيهاب واحد.
فهو رحمه الله لم يكن مجرد مدافع أو حام لحياض الشريعة فقط, بل كان سابقاً لعصره, أعطاه الله النظر الثاقب, وسداد الرأي, وكمال العقل, مع كرم نفس ويد, وقد كان ذا تؤدة وافية, ورزانة ضافية, وورع ظاهر, وتديُّن متين مع أُفُق واسع, ودراية تامة, أجمع من ترجم له وجالسه على عظيم هيبته, وتمام عقله, وامتياز شخصيته, وكثرة صمته, وغزارة علمه, وسعة اطلاعه, وتفنن علومه, ونفاذ بصيرته, وقوة ذاكرته, وثباته على الحق فلا يخشى في الله لومة لائم.
إِذا هَمَّ لم تُرْدَعْ عَزيمَةُ هَمِّهِ
ولَمْ يَأْتِ ما يَأْتِي منَ الأَمْرِ هائِبا
وربما ذكرتني بعض مواقفه وقراراته وصفاته التي سمعتها من مشايخي عنه رحمه الله بقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن العالم المحدث سليمان بن داود الهاشمي رحمه الله: كان يصلح للخلافة!
ومثال لمبادراته رحمه الله: توليه الإشراف العام على رئاسة تعليم البنات لما اعْتمد افتتاحها, وجعل رئيسها تلميذه الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الرشيد ثم الشيخ ناصر الراشد رحمهما الله.
كان رحمه الله جامعاً لكل سؤدد, مهاب الجانب, حتى قال عنه الشيخ محمد نصيف رحمه الله: (جبل عِلْم, يُخيف من حوله), وحدثني شيخنا عبدالمحسن العباد حفظه الله عن الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي رحمه الله أنه قال: كان الناس يدخلون مجلس الشيخ محمد بن إبراهيم فيسلِّمون ويجلسون ولا يتكلمون كأن على رؤوسهم الطير, فإن تحدَّث تكلموا معه في حديثه, وإلا شربوا القهوة واستأذنوا للانصراف.
كأنَّما الطَّيرُ منهم فوقَ هامتهم
لا خوفَ ظُلمٍ ولكن خوفَ إجلالِ
وقال سماحة شيخنا صالح اللحيدان حفظه الله عن شيخه مفتي الديار: كان محترَم المجلس, لا تسمع في مجلسه متحدِّث يتحدث في أمور عامة أو خاصة, ولا تسمع في مجلسه غيبة ولا نميمة, بل إن كبار الشخصيات إذا حضروا مجلسه حضروا بأدب عالٍ, وسمت كريم, احتراماً لمجلسه رحمه الله, وربما سُئل السؤال فلم يجبه لا عن جهل لكن ربما يرى السؤال غير لائق, يصدق فيه رحمه الله ما قيل في الإمام مالك:
يَدَعُ الجَوَابَ فَلاَ يُرَاجَعُ هيبة
والسائلون نواكس الأَذْقَانِ
عِزُّ الوَقَارِ وَنُوْرُ سُلْطَانِ التُّقَى
فَهُوَ المَهِيْبُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ
ذكرني قول شيخنا صالح في شيخه بما رواه الخطيب في تأريخه عن يحيى بن أكثم، قال: قال لي الخليفة المأمون: مَنْ تركتَ بالبصرة؟ فوصفتُ له مشايخ منهم سليمان بن حرب، وقلتُ: هو ثقة حافظ للحديث، عاقل في نهاية الستر والصيانة، فأمرني بحمله إليه، فكتبتُ إليه في ذلك، فقَدِمَ، فاتفق أني أدخلتُه إليه وفي المجلس ابن أبي دؤاد، وثمامة، وأشباه لهما، فكرهتُ أن يدخل مثله بحضرتهم، فلما دخل سلَّم فأجابه المأمون، ورفع مجلسه، ودعا له سليمان بالعز والتوفيق.
فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، نسأل الشيخ عن مسألة.
فنظر المأمون إليه نظر تخيير له، فقال سليمان: يا أمير المؤمنين، حَدَّثَنَا حماد بن زيد، قال: قال رجل لابن شبرمة: أسألك؟ فقال: إن كانت مسألتك لا تضحك الجليس، ولا تزري بالمسؤول فسل.
وحَدَّثَنَا وهيب بن خالد، قال: قال إياس بن معاوية: من المسائل ما لا ينبغي للسائل أن يسأل عنها، ولا للمجيب أن يجيب فيها، فإن كانت مسألته من غير هذا فليسأل، وإن كانت من هذا فليمسك.
قال يحيى بن أكثم: فهابوه، فما نطق أحد منهم حتى قام.
كان لمفتي الديار رحمه الله المواقف المحمودة, والعزمات المشهودة, نفع الله به أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-, فهو شيخ القضاء ورئيس القضاة في زمانه, ساد العلماء, وقاد الأجيال, وأَظهر الرجال, وتخرَّج بين يديه أبرز علماء العصر, كان سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله دائم الترحم عليه بل كانت تغلبه نفسه فيبكي عند ذكره, عرفاناً بفضله, ووفاءً منه لشيخه.
قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي عن الشيخ محمد رحمهما الله: (من نوادر الرجال الذين عرفناهم علماً وحلماً وعقلاً وحكمة).
أيقظ الله به خلقاً كثيراً في طلب العلم وغيره, بل إني أقول: لم أجد عالماً اجتمع عنده من طلاب العلم خاصة الأَكِفَّاء «جمع كفيف» ما اجتمع عند الشيخ محمد بن إبراهيم, ولا أظن أنه وَلِيَ القضاء منهم في زمن أكثر من القرن الماضي, فقد انتفعوا بالشيخ, وانتفع بهم المجتمع, فكانوا هم العلماء والقضاة والدعاة والمعلمون وأئمة الجوامع والمساجد وغيرهم, رُزِق السَّعْد في تلاميذه, وتجاوزت أعمالُه عمره, واستمرتْ إلى عصرنا, فلله دره.
قال شيخنا القدوة صالح الفوزان حفظه الله عن أعمال الشيخ محمد رحمه الله: (كلُّ عمله نرجو أن يكون عبادة؛ لأنه كله في صالح الإسلام والمسلمين, وما كان كذلك فهو عبادة).
وكان من عظيم حسناته بدعم ولاة الأمر -جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً- افتتاح المعاهد العلمية, فهي فتحٌ على طلاب العلم وأهله, فقد خرَّجتْ أجيالاً نفع الله بهم العباد والبلاد على مرِّ العقود الماضية, وقد حدثني شيخنا الجليل صالح الفوزان -حفظه الله ومتع به على طاعته- أنه حضر حفلاً في تخرج معهد علمي وكان سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم حاضراً, فألقى كلمة, فكان مما قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» وأطول هذه الثلاثة بقاءً هو العلم الذي ينتفع به؛ إذ الولد يموت, والوقف يضيع لاسيما مع مرِّ الزمان وذهاب الناظر, فكم من وقف تعطلت منافعه وضاع, فيبقى العلم الذي ينتفع به, وأحسب هذه المعاهد العلمية من أكبر أسباب العلم الذي ينتفع به في هذا الزمان. وقد كانت كذلك. وحدثني شيخنا الجليل عبدالله الغديان رحمه الله أنه رأى في منامه رسول الله إبراهيم عليه السلام في مبنى المعهد العلمي بالرياض, قال الشيخ عبدالله: فأخبرتُ حينها شيخنا محمد بن إبراهيم رحمه الله بالرؤيا, فقال: رأيته؟ فقلت: نعم, فابتسم الشيخ ابتسامة الفرح, وقال: الحمد لله, خير خير إن شاء الله.
ومما يذكر هنا أن الشيخ العلامة عبدالله بن عبداللطيف رحمه الله قبل وفاته أوصى الملك الصالح الإمام عبدالعزيز آل سعود الذي جدَّد الله به الدين في القرن الماضي - رحمه الله رحمة واسعة- بالشيخ محمد خيراً, ولما يَبْلغ الشيخ محمد حينها الثلاثين من عمره, وقد أخذ الملك عبدالعزيز رحمه الله بالوصية, وكانت نعم الوصية.
ومما بلغني أيضاً أن الملك عبدالعزيز رحمه الله لما جلس في مجلسه بعد وفاة الشيخ عبدالله سأل الشيخ العلامة سعد بن عتيق رحمه الله وكان بجواره: يا شيخ سعد من ترى يكون محل الشيخ عبدالله رحمه الله؟ فأجاب: ابن أخيه الشيخ محمد عقل وعلم ودين.
وحدثني الشيخ حمود البليهد حفظه الله قائلاً: ذهبتُ وأحد زملائي من الجوف إلى الرياض لنسلِّم على الشيخ محمد رحمه الله ونعطيه خطاباً فيه توصية بنا, لعل الشيخ يُوجِّه بتعييننا في الإرشاد الديني, فلم يتيسر لنا اللقاء به في أول الأيام, فدلَّنا رجل -بعد أن أخبرناه أننا مغتربون- أن الشيخ يجلس في مجلس ذاك بابه, وأشار إلى أحد الأبواب, وقال: يكون فيه قبل المغرب بساعة تقريباً, ويأتيه بعض خواصه, قال الشيخ حمود: فلما استقروا في المجلس كما أخبرنا الرجل وبدأ الشيخ يتحدث إليهم, دخلنا على سماحته فوقع في سمعي وهو يتكلم رحمه الله قبل أن نلقي عليه السلام, قوله: أذكر أنه لما كان عمري ثلاث عشرة سنة أن الشيخ عبدالله رحمه الله «يعني عمه» طرح سؤالاً فأجبتُ عنه, فأعجبه الجواب, وأشاد وشجَّع, وهذا من حسن تربيته رحمه الله, قال الشيخ حمود: فألقيتُ عليه السلام, فردَّ السلام واستجمع, وضَربتْ الهيبةُ أطراف المجلس, فقلت: أحسن الله إليكم أبناؤك قدموا من الجوف, ومعهم خطاب إليكم, فقال: اقرأ الخطاب يا فلان, فدفع صاحبي الشيخ إسماعيل بن بلال الخطابَ إلى الرجل المقصود, فبدأ بقراءته على سماحته, وفيه بعد السلام والتحية: الإخبار بأنهما من تلاميذ الشيخ فيصل المبارك رحمه الله, وأنهما يحفظان القرآن, وكتاب التوحيد, وعمدة الأحكام, والرحبية, والزاد, وغيرها, وقد درساها على الشيخ فيصل.. قال الشيخ حمود: فأخذ الشيخُ الخطابَ من الرجل وجعله في جيبه الداخلي, وكان لابساً ثوبين رحمه الله, ثم قال: القهوة «يطلب القهوة؛ ليقهوينا», قال الشيخ حمود: «دخلنا مِشْطَه» رحمه الله, وأظهر تقديرنا بعد ما سمع المكتوب, وإن كنا جئناه على غير ميعاد, وفي مكان ليس مكان عمل, فشربنا القهوة, ثم قال: الشاي, فشربنا الشاي, ثم قال: الطيب, فطيبنا جزاه الله عنا خيراً, وقال الرجل الذي قرأ الخطاب: راجعوا الشيخ الصانع, فخرجنا من المجلس بعد الاستئذان من الشيخ رحمه الله.
قلت للشيخ حمود: هل عرفتم أحداً ممن كان في المجلس غير الشيخ؟ قال: لا, لكن أذكر أن أحدهم كان كفيفاً, فقلت: في أي عام كان هذا؟ قال: عام 1388هـ.
ومن لطيف ما ورد في سيرته رحمه الله من فقهه وورعه ووفور عقله وهو في شرخ الشباب ما ذكره حفيده صاحب المعالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله أن الشيخ عبدالله بن عبداللطيف رحمه الله في آخر أيامه كان ينيب الشيخ محمداً على إمامة المسجد, فلما توفي الشيخ عبدالله لم يصلِّ الشيخ محمد إماماً! وسبَّب ذلك بقوله: إن هذه وظيفة شرعية وكان صاحبها منيباً لي, فلما توفي انتهت الوكالة, وهي راجعة إلى الإمام.
فلم يتول الإمامة والخطابة حتى جاءه تكليف بذلك من الملك عبدالعزيز رحمه الله.
فجلس الشيخ محمد للناس ولطلاب العلم, فكان إمام الجامع وخطيبه والمعلم والقاضي والمفتي, وكان محط النظر, وملء السمع والبصر, طنَّتْ حصاة فضله الأقطارَ, وذاع صيته في البلدان, وأصبح العالِم المقصود, وصاحب المجلس المشهود, أمضى نصف قرن من عام 1339إلى 1389, وهو يكابد التدريس والطلاب والقضاء والفتوى, ويجلس إلى الناس الخاصة منهم والعامة, ويُورد الأمر ويصدره, مع بصيرة تامة, وفراسة مبهرة, في صبر عظيم, وجلد كبير لا يقوى عليه إلا الأفذاذ والنوادر من الرجال.
وكان من أقرب الناس إليه أخوه الشيخ الجليل عبداللطيف رحمه الله الذي كان نعم العضيد لسماحته, والرفيق لدربه, ولذا لما توفي الشيخ عبداللطيف تأثر الشيخ محمد تأثراً كبيراً, وقد سمعتُ من سماحة شيخنا صالح اللحيدان حفظه الله قوله: لم أر شيخنا محمد بن إبراهيم منذ عرفته متأثراً كتأثره من وفاة أخيه, فقلتُ له حين رأيته كذلك وكنا في مجلسه: شيخنا يصدق عليكم مع أخيكم الشيخ عبداللطيف رحمه الله قول متمم بن نويرة في رثاء أخيه:
وكنّا كنَدْمانَيْ جَذِيمَة حِقْبَةً
مِن الدهرِ حتى قِيل لن يَتَصَدَّعا
وعِشْنا بخيْرٍ في الحياةِ وقَبْلَنا
أصابَ المنايا رَهْطَ كِسْرَى وتُبَّعا
فلما تَفَرَّقنا كأَنِّي ومالِكاً
لطُولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا
فإنْ تكُنِ الأيامُ فَرَّقْن بَيْنَنا
فقَدْ بانَ محموداً أخِي حينَ وَدَّعا
قال الشيخ صالح: فرأيتُ شيخنا رحمه الله هزَّ رأسه مترحماً على أخيه, معيداً قول متمم: لطُولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا.
كان الشيخ محمد رحمه الله عالماً عاملاً ربَّانيًّا أمَّاراً بالمعروف, رأساً في كل خير, قامعاً لأهل البدع والضلال, كاشفاً للشبهات, بدراً تاماً لأهل التوحيد والسنة, باذلاً وقته وعمره في الخير, وقد ذكر معالي الشيخ عبدالله المنيع حفظه الله أن سماحة الشيخ رحمه الله كان يقضي ما لا يقل عن سبع عشرة ساعة كلها في خدمة المسلمين وبصفة دائمة ومستمرة لا تقطعها إجازة ولا يحول دون القيام بها أي تعلل من تعللات الآخرين!
أَبَنتَ لنا التنزيلَ حُكمًا وحكمةً
وفرَّقت بين النور والظلمات
ووفَّقتَ بين الدين والعلم والحِجا
فأطلعتَ نورًا من ثلاث جهات
بكى عالَمُ الإسلام عالِمَ عصره
سراجَ الدياجي هادِمَ الشبهات
حدثني الشيخ الوقور عبدالعزيز بن أحمد السلمان حفظه الله أن الشيخ عبدالله الوهيبي حدَّثه عن أخيه الشيخ عبدالرحمن رحمهما الله وقد جعله مفتي الديار رحمه الله ينظر في حوائج بيوتات طلاب العلم الذين قَدِموا للدراسة على سماحته, فكان الشيخ عبدالرحمن يأتي للشيخ ويقول: الغرفة الفلانية قد انخرع بابها, فيُدْخِل الشيخ يده في جيبه ويعطيه مبلغاً ليصلحه, وهكذا سنوات وهو يأتي للشيخ ويقول: ميزاب الغرف يحتاج لإصلاح, وهذا يحتاج لكذا, والشيخ لا يعدو إلا أن يدخل يده في جيبه ويعطيه, قال: كنتُ أظن أن الشيخ يعطيني من الأوقاف أو من صلات تصله, لذا كنتُ أخبره بكل شيء حول إصلاح تلك البيوت, فلما توفي الشيخ رحمه الله بان لي خطأ ظني, فقد كان يدفع من ماله الخاص, وينفق منه على إصلاحها.
كان رحمه الله يعلم قيمة وقته وفيما ينفقه, وكان متذكراً للآخرة, قال ابنه معالي الشيخ إبراهيم رحمه الله: كان والدي كثيراً ما يكرر هذه الأبيات:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ
غُلْبُ الرِّجَالِ فَمَا أَغْنَتْهُمُ الْقُلَلُ
وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ
فأودعوا حُفَراً يا بئس ما نَزلُوا
أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً
مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ
تَلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ يَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْرًا وَمَا شَرِبُوا
فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُولِ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
لما توفي الشيخ محمد قال الملك الجليل فيصل رحمه الله: رحم الله الشيخ لقد فُتِحتْ علينا ثغرات بعد موته لا نعرف كيف نسدها؟!
وقال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله: (هو العالم الذي لا يبارى, وهو الباحث الذي لا يهزم, وهو اللبق الذي لا يخدش جليساً, وهو الفطن الذي لا يخدع, وهو الحذر الذي لا يتسرع, فملأ فراغاً في هذا الباب لا يسده غيره, وسد ثغراً لا يكفيه سواه على أنه شخص واحد ولكن في ثوبه أشخاص).
وقال الشيخ عبدالمحسن العباد حفظه الله (توفي رحمه الله ضحى يوم الأربعاء الموافق الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1389هـ, وصلي عليه في الجامع الكبير في الرياض عقب صلاة الظهر, وأمَّ الناس في الصلاة عليه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز, واكتظ المسجد بالمصلين عليه من خاصة الناس وعامتهم على الرغم من قصر المدة بين وفاته ووقت صلاة الظهر, كان على رأس الذين حضروا الصلاة عليه الملك فيصل -رحمه الله- حيث أدى الصلاة عليه مع الناس في الجامع الكبير ثم ذهب إلى المقبرة ولم يزل على حافة القبر حتى دفن رحمه الله, وقد نقل من المسجد إلى المقبرة على أكتاف الرجال في مسافة تقرب من كيلومترَيْن واكتظت الشوارع بالمشاة وبالسيارات التي تحمل المشيعين... وكانت وفاته رحمه الله على أثر مرض أصابه في كبده في أواخر شهر شعبان حيث دخل المستشفى في الرياض, وفي أوائل شهر رمضان سافر إلى لندن ثم عاد منها إلى الرياض في مساء يوم الخميس الثامن عشر من شهر رمضان, ومنذ عودته وهو في غيبوبة يفيق أحياناً فيذكر الله ويستغفره حتى توفاه الله تعالى, ومدة عمره ثمان وسبعون سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام رحمه الله وغفر له, وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يفتح له أبواب الجنة الثمانية ليدخل من أيها شاء... وقد أرَّختُ سنة وفاته بهذه الأبيات:
سماحة الشيخ العظيم المنزله
الثاقب الرأي بحل المشكله
مفتي الديار رأس كل قضاتها
مع دور علم الشرع كلٌ أَنَّ له
وفاته بأحرف أرَّختها
فقلت (جُدْ جواد واغفر لي وله)
وقد قال لي شيخنا عبدالمحسن العباد حفظه الله: لم أقل شعراً ولا نظماً قط غير هذه الأبيات الثلاثة في سماحته رحمه الله.
وقد ذكر الشيخ الورع محمد بن قاسم رحمه الله «جامع فتاوى سماحته» أنه لم يكن بين وفاته والصلاة عليه إلا ساعتان.
وصلى على قبره بعد دفنه جماعات كثيرة.
كُفَّ بصره رحمه الله وعمره سبع عشرة سنة فلم يكن عائقاً له عن معالي الأمور بل قاد زمانه -بتوفيق الله له- علماً وتعليماً وقضاءً وفتوى, فهو الوالد للعلماء, والرئيس للقضاة والقضاء, والمرجع في الفتوى, ورائد التعليم, فهو رئيس الجامعة الإسلامية, ورئيس كليات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية «قبل أن تحمل هذا الاسم», والمشرف على رئاسة تعليم البنات, وعلى المعاهد العلمية, وعلى المعهد العالي للقضاء, وعلى المناشط الدعوية والدينية, وترشيح الأئمة والمؤذنين، والوعاظ والمرشدين, وعلى دور الأيتام, وأول رئيس للمجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي, وغيرها من المهام الجسام, ومع ذلك كله كان لا يتقاضى مرتباً إلا من عمله في رئاسة القضاة فقط.
قال شيخنا الجليل صالح الفوزان حفظه الله: سألت الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله بعد وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: ما تقول في شيخك؟
فتنهَّد رحمه الله, وقال:
سيذكُرني قَومي إذا جدَّ جدُّهمْ
وفي اللَّيلةِ الظَّلماءِ يُفتقدُ البدرُ
لقد أُلِّفتْ عن مفتي الديار رحمه الله مؤلفات, وصنِّفت فيه المصنفات, وكُتبتْ مقالات, وقيلت فيه القصائد, ونُظمتْ على فقده الأبيات, كما سُجِّلتْ رسائل علمية عن اختياراته وبعض جهوده, وذلك يسير في حقه رحمه الله.
فمن المهم نقل سيرته للأجيال, فكثير من الناس داخل المملكة العربية السعودية وخارجها قد انتفعوا بتلاميذه وتلاميذ تلاميذه, بل استفادوا من مبادراته وقراراته وهم لم يتعرَّفوا على سيرة عالم من أعظم علماء القرن الماضي, بل قال شيخنا صالح اللحيدان أتم الله عليه الصحة والعافية: (لا شك أن عارفيه يقولون: إنه أبزر من أتى بعد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمة الله عليه من هذه الشجرة).
وعلى كل حال فله علينا فضل كبير, جزاه الله عنا كل خير, ورحمه, ورفع منزلته, وأكرم مثواه, وجعلنا وإياه من صحب نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الفردوس ووالدينا ومن له حق علينا من علمائنا وولاة أمرنا وأهلينا.
وأختم هذا المقال بقصيدة قالها شيخنا الوقور الدكتور أحمد بن عبدالله بن حميد حفظه الله في رثاء سماحته رحمه الله, وقد نشرتْ في صحيفة الندوة يوم الأربعاء الموافق 15-10-1389, جاء فيها:
مناهل العلم قد غاضت لدى الترب
وأصبح العلم مهزولاً من الوصب
بكت عليه ذوو الإسلام قاطبة
فالعين ساكبة والجسم في لصب
شمس أطلت على الدنياءِ ساطعة
يهدى لها الناس من عجم ومن عرب
ما بالها غربت من بعد ما سطعت
إني أرى الكون أمسى اليوم في كرب
ترى عداة بني الإسلام قد فرحوا
لما رأوا قامع البطلان في الترب
محمد يا شهاب الدين قد ذهبت
من بعدكم حلقات العلم والكتب
من للفرائض والتوحيد بعدكم
من للحديث ومن للفقه والأدب
من للمسائل إن جاءت معقدة
من كل مصر ومن سهل ومن حدب
كم بدعة في بلاد الله قد ظهرت
ثم انبرى نحوها بالصارم العضب
حتى أزال أصول الشر فارتفعت
لذاك أصوات أهل الحق كالشهب
لهفي عليك إمام الدين من رجل
شهم حليم كريم الجدِّ والنسب
قضيتَ عمرك في التدريس مجتهداً
لم تجعل العلم للدينار والذهب
قبضت في خير شهر في أواخره
في رحمة الله محفوظاً من اللهب
بنيتَ مجداً عظيماً ليس يهدمه
مر الليالي وطول الدهر والحقب
انظر تلاميذه في كل ناحية
صاروا هداة الورى في الخلق كالشهب
لا تحسب الشعر قد وافى محاسنه
كلا وربي ولا في النثر والخطب
صبراً ذويه فإنا لاحقون به
طوعاً وكرهاً ولو لذنا إلى الهرب
وفي الختام صلاة الله نازلة
على النبي رسول الله والصحب
** **
- أستاذ الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء