د. تنيضب الفايدي
أمام هذه العظمة والمقام الرفيع جفّ قلمي وانعقد لساني وفقدتُ الكلام الذي يصف مقدار عظمتك، ولم تسعفني الكلمات التي كانت تساعد في وصف الأماكن التاريخية؛ ولمقامك الرفيع أسكن إبراهيم عليه السلام ذريته بجوارك وخاطب الله سبحانه وتعالى قائلاً عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (37) سورة إبراهيم ويا نعم الجوار.. تاريخك قبل التاريخ وزمانك قبل الزمان؛ وقد أضافك رب العالمين إلى نفسه قائلاً وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) سورة الحج.. إنك بيت الله فهل هناك مقامٌ يسامي مقامك.. إن الكعبة هي مركز الكرة الأرضية وهي نقطة الانطلاق إلى جميع الجهات، كما أنها مركز الاستقبال من جميع الجهات أيضاً، تمثل تماماً قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ (115) سورة البقرة بمعنى: أن تكون متصلاً بالنية مع الله سبحانه وتعالى في كل نقطة أنت فيها، ويكون اتجاهك إلى الكعبة فأنت تكون باتجاه الله ومع الله وتعتمد على الله.
والكعبة المشرفة هي أصل مدينة مكة المكرمة، وهي المسجد الحرام قال تعالى: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ (97) سورة المائدة وقد بنى إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام البيت على قواعد سابقة أظهرها الله له وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) سورة البقرة، وكان بناء إبراهيم عليه السلام بالحجارة رضماً بدون مونة أو (خلطة ماسكة للحجارة)، وسبق بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة بناؤها عدة مرات، واختلف العلماء في أول من بنى الكعبة، يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله سبحانه وتعالى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) سورة البقرة: أنه قد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة، فذكر الأقوال الواردة في ذلك ووصفها بالغرابة، ثم قال: «غالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدّق ولا يكذّب، ولا يعتمد عليها بمجردها، وإنما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين»، فقيل إن أول من عمر الكعبة هو إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وقيل: آدم عليه السلام، وقيل: عمرها الملائكة، وقيل: عمرها شيث بن آدم عليهما السلام.
ولها عدة أسماء جاء بعضها في القرآن الكريم، منها: الكعبة وقد سميت بها لتكعيبها وهو تربيعها وقيل لعلوها وارتفاعها، وقيل لانفرادها، وذكر الأزهري أن كل بيت مربع فهو عند العرب كعبة. وقد جاءت لفظة «الكعبة» في موضعين في القرآن الكريم: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ (95) سورة المائدة و جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ (97) سورة المائدة ومن تلك الأسماء: البيت: قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} (125) سورة البقرة ومنها البيت العتيق: قال تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) سورة الحج، ومنها المسجد الحرام قال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ (2) سورة المائدة ومنها البيت المحرم قال تعالى: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (37) سورة إبراهيم ومنها: أول بيت قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) سورة آل عمران، وتسمى الكعبة المشرفة أيضاً البَنيّة كبقيّة، يقال: لا وربّ هذه البنيّة ويقال لها: بنيّة إبراهيم لأنه بناها، وقد كثُر قسمُهُم برب هذه البنيّة، وتسمى القبلة لأنها تُستقبل، وتسمى (الحمساء) وكانت قريش تنسب إليها، فيقال لهم الحمس، وتسمى البيت المعمور على أحد القولين في المراد به من قوله تعالى {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (4) سورة الطور، ومن أسمائها أيضاً نادر والقرية القديمة وقدوس.
والكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس في الأرض قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) سورة آل عمران، الكعبة رمز لوحدانية الله تعالى، ومشعر بالقرب منه والأنس به تبارك وتعالى. ويكفي لشرفه أن الله سبحانه وتعالى أضاف هذا البيت إلى نفسه حيث قال: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) سورة الحج ولعظمته أوجب الله سبحانه وتعالى على المستطيع حجه حيث قال: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) سورة آل عمران وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً وذلك لقول الله في كتابه وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) سورة آل عمران رواه الإمام الترمذي والإمام أحمد.
وروي عن مقاتل يرفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن آدم عليه السلام قال: أي رب إني أعرف شقوتي، إني لا أرى شيئاً من نورك يعبد، فأنزل الله عز وجل عليه البيت المعمور على عرض هذا البيت في موضعه من ياقوتة حمراء ولكن طوله كما بين السماء والأرض وأمره أن يطوف به فاذهب الله عنه الغم الذي كان يجده قبل ذلك ثم رفع على عهد نوح عليه السلام».
والكعبة ما زالت محترمة في الجاهلية حتى جاء الإسلام وجلعها الله في السنة الثانية للهجرة قبلة للمسلمين حيثما كانوا، وكانوا يصلون إلى بيت المقدس قال الله تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ (144) سورة البقرة. فكان كذلك، وصارت الكعبة قبلتهم في صلاتهم تتوجه إليها وجوههم وتعنوا لله في قبالتها جباههم في أي نقطة كانوا من هذه الكرة الأرضية. لا فرق بين شمالي وجنوبي، وشرقي وغربي، بعيد أو قريب، وبذلك أصبحت عندهم مركز الدائرة التي يرتبطون بها جميعاً بحبل دينهم المتين، دين التوحيد، دين المساواة، ودين الإخاء، دين الحرية الصحيحة، ولها في نفوسهم من الإجلال والإعظام ما لا يقوى على تعبيره لسان أو يتخيله جنان، لا فرق في ذلك بين أهل مذهب ومذهب آخر، بل ترى المسلمين على اختلاف مذاهبهم يصلون حولها وراء أي أمام كان، وهذا لا يدل على التسامح الموجود بين المسلمين، بل فيه أكبر برهان على التضامن الموجود بينهم، وتوحيد الغاية التي يرمون إليها في عبادتهم.
أما فضيلة الصلاة في المسجد الحرام فهو ثابت بنص الحديث فعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلاَةٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ)، كما عظمه الله تعالى وحرمه وحرم ترويع الآمنين فيه قال تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (97) سورة آل عمران.
وقد سماه الله تعالى البيت العتيق فقال: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق (29) سورة الحج، وسماه الكعبة والبيت الحرام فقال جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ (97) سورة المائدة، وسميت الكعبة بالبيت العتيق لأن الله تعالى أعتقه من سطوة الجبابرة فلم يظهر عليه جبار. وقيل: لقدمه في الأرض؛ لأنه أول بيت وضع في الأرض والعتيق بمعنى القديم. وقيل: لأنه كريم على الله تعالى؛ لأنه لم يجر عليه ملك لأحد من خلق الله تعالى فلا يقال بيت فلان وإنما يقال بيت الله. وقيل: لأنه أعتق من الغرق في زمن الطوفان، وقيل: لشرفه سمي عتيقاً. وقيل: لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المؤمنين من العذاب. وقيل: لأنه يعتق زائره من النار.
والكعبة لها تعظيم حتى في الجاهلية، حتى الناس في الجاهلية لايبنون بيوتهم مدورة درءاً للتشبه بالكعبة المشرفة، كما لا يرفعون بيوتهم أعلى من الكعبة، وعن أبي ربيعة المخزومي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها يعني الكعبة والحرم فإذا ضيعوا ذلك هلكوا».
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: النظر إلى الكعبة عبادة، والنظر إلى وجه الوالدين عبادة، والنظر في كتاب الله عبادة.
كما ورد أحاديث كثيرة في فضل الطواف بالبيت الحرام، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طاف بهذا البيت أسبوعاً (يعني سبعة أشواط) فأحصاه كان كعتق رقبة وسمعته يقول: لا يرفع قدما ولا يضع أخرى إلا حط الله بها عنه خطيئة وكتبت له بها حسنة».
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: من توضأ وأسبغ الوضوء ثم أتى الركن يستلمه خاض في الرحمة، فإن استلمه فقال: بسم الله والله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله غمرته الرحمة، فإذا طاف بالبيت
كتب الله له بكل قدم سبعين ألف حسنة، وحط عنه سبعين ألف سيئة، ورفع له سبعين ألف درجة، وشفع في سبعين من أهل بيته، فإذا أتى مقام إبراهيم عليه السلام فصلى عنده ركعتين إيماناً واحتساباً كتب الله له كعتق أربعة عشر محررا من ولد إسماعيل، وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه».
فضائل الكعبة:
وللكعبة المشرفة فضائل كثيرة، منها ما هو ثابت في القرآن الكريم والسنة النبوية، فمنها:
- إنه أول بيت عام وضع للناس كافة في الأرض للعبادة قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) سورة آل عمران.
- من فضائل البيت أنه مبارك (مباركاً) فإنَّ الطاعات يزداد ثوابُها فيه ويتضاعف.
- مِن صفات هذا البيت أنَّه هُدى للعالمين، ففيه هداية لجميع الناس باستقبال المصلين له مِن كل جهة في مشارق الأرض ومغاربها.
- من فضائل الكعبة أن فيها عدداً من آيات بينات قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا (97) سورة آل عمران.
- من فضائلها وجوب استقبالها لصحة الصلاة قال تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (150) سورة البقرة
- من فضائلها أن الله سبحانه وتعالى جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس أي: مركز نظامهم المادي المحسوس، وكذا الروحي الذي ينطلقون منه والذي يتجهون إليه قال تعالى: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ (97) سورة المائدة.
- إن طوافها عبادة، وفيه أجر كبير قال صلى الله عليه وسلم (من طاف بهذا البيت لم يرفع قدما ولم يضع أخرى إلا كتب له الله بها حسنة، وحطت بها خطيئة).
- إن من فضائلها أنه لا يخلو من طائف أبداً ليلاً ولا نهاراً، ولم يجد أحداً يذكر أنه رآه خالياً دون طائف.
- من فضائلها إن مجرد النظر إليها عبادة.
- من فضائلها أن الصلاة لا تكره فيها في أي وقت من الأوقات.
- من فضائلها إن الإنسان يجد هيبة بمجرد رؤيتها.
- من فضائلها إنها بيت الله قد عظّمها الله سبحانه وتعالى، كما عظّمها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَقُولُ مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ....).
- من فضائلها أنَّ الله نَجَّى البيتَ وأهله من بطش أصحابِ الفيل، وأهلكهم على قوَّتِهم كما جاء في القرآن العظيم.