ليس من اليسير أن يحظى بلقب رائد في الأدب من حمل قلماً، أو دبج مقالاتٍ، أو أعد بحوثاً، أو نشر قصائد، أو أكثر من التأليف، وإنما لكي ينال هذا اللقب عن جدارة واستحقاق فلابد أن يكون فيما قدمه إضافة جديدة في الأدب أو النقد، أما الذين يهمشون ويشرحون، ويتتبعون خطوات من سبقهم، ويعتمدون على ما دونوه، فليسوا من الريادة في شيء؛ فعلى سبيل المثال نعد طه حسين رائداً في فن السيرة الذاتية الأدبية في الأدب العربي الحديث، إذ لم يسبقه سابق في تدوين سيرته على هذا النسق الأدبي الفريد، وإن وجد له نموذج في الأدب الفرنسي. وأعد جرجي زيدان، ومصطفى صادق الرافعي رائدين في التاريخ للأدب العربي، وإن اختلف منهج كل منهما، وسبقتهما محاولات يسيرة، ويرجع الفضل في تدوين تاريخ الأدب العربي على هذا النحو الذي استمر إلى المستشرقين الألمان، ولاسيما كارل بروكلمان ()، ونعد أحمد حسن الزيات رائداً في إصدار المجلة الأدبية المثالية، وهي مجلة الرسالة، ونعد عبدالله عبدالجبار رائداً من رواد الأدب والنقد في المملكة بكتابه التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية.
أما الأديب الشاعر عبدالله بن إدريس فتحققت ريادته الأدبية في المملكة بكتابه الفذ: شعراء نجد المعاصرون الذي صدر عام 1380 هـ/ 1960م، وهو خاص – كما يظهر من عنوانه – بالشعراء الذين أنجبتهم نجد في العصر الحديث، ولم يسبق أن صدر كتاب يحمل موضوعه ومضمونه، ويضم الحديث عن مجموعة من الشعراء النجديين الذين عاصرهم المؤلف، واطلع على ما نشر من شعرهم في الصحف أو في دواوين قليلة لا تتعدى أربعة دواوين طبقاً لما ذكره في مصادر الكتاب.
شرع المؤلف في إعداد كتابه عام 1378هـ/ 1958م، وهو وقتٌ مبكر بالنسبة للشعر في نجد، بعد أن اطلع على كتب تتحدث عن الأدب في الحجاز مثل شعراء الحجاز في العصر الحديث 1370هـ/ 1950م لعبدالسلام طاهر الساسي، وقصة الأدب في الحجاز لعبدالله عبدالجبار.
وصدر عام 1344 هـ كتاب أدب الحجاز أو صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازية شعراً ونثراً، جمعه ورتبه محمد سرور الصبان، طبعته المطبعة العربية بمصر لصاحبها خير الدين الزركلي على نفقة المكتبة الحجازية بمكة المكرمة، ويقع في تسعين صفحة، وفي عام 1370هـ/ 1951م صدر الجزء الأول من كتاب: النهضة الأدبية بنجد جمعه ورتبه: حسن محمد محمود الشنقيطي صاحب مكتبة الطبع والنشر بالرياض، ويقع في مائتي صفحة، الكتابان الأخيران اعتمدا على الجمع اليسير، وأعدهما محاولة بحسب الإمكانات المتاحة في ذلك الوقت لكتابة ما يمكن كتابته وتدوينه.
وتحققت ريادة الأستاذ عبدالله بن إدريس - كما ذكرت - بهذا الكتاب؛ لأنه أول كتاب يصدر عن شعراء نجد، التي تأخر فيها الشعر، وتأخرت فيها الثقافة عن الحجاز بسبب عوامل توافرت لإقليم الحجاز، ولم تتوافر لإقليم نجد إلا في وقت متأخر. والسبب الآخر أنه كتبه متبعاً أسلوباً منهجياً، أعطاه قيمة أدبية وعلمية لم تتوافر في بعض الكتب التي ذكرتها سابقاً.
والخطة المنهجية التي امتاز بها الكتاب نأت به أن تكون مادته مقتصرة على مجرد الجمع والترتيب.
استهل كتابه بمقدمة ألمح فيها إلى مكانة نجد في الشعر العربي القديم عدة قرون، أعقب ذلك بالحديث عن فكرة الكتاب، والسبب الذي دعاه إلى تأليفه، فقد كان دافعه أن الشعر المعاصر في نجد مجهول لدى أدباء العالم العربي ومثقفيه فلا يعرفون عنه شيئاً، أو لا يعرفون عنه إلا قليلاً لا يصور حياة الشعر في نجد، ولا يقدم شيئاً ذا بال. وكانت فكرته في البدء أن يقدم نماذج مختارة من هذا الشعر مستهلة بتراجم موجزة لأصحاب هذه النماذج، ورأى أن هذا الأسلوب غير مجدٍ، فلم يقتنع به، واتجه إلى دراسة الشعر على نحو جديد من خلال المؤثرات والعوامل الاجتماعية والنفسية والإنسانية والأحداث، وذكر أنه درس الشعر على غير مثالٍ سابق، فالشعر المعاصر في نجد لم يسبق أن حظي بدراسة شاملة أو نقد موضوعي يمكن أن يستعين بهما، أو يكونا منطلقاً للدراسة واختيار النماذج، فاعتمد على جهده الشخصي في اختيار الشعراء وأشعارهم، وإعداد ترجمة لكل شاعر مع الحديث عن شعره، وإيجاز ما يمتاز به من خصائصَ وسمات فنية. وهذه الإضافات هي التي أعطت الكتاب قيمة أدبية، وعانى المؤلف من جمع الأشعار موضع الاختيار والدراسة، إذ لم تكن للشعراء دواوين مطبوعة يسهل الرجوع إليها ما عدا القليل منها، وكانت هذه الاختيارات الشعرية موضع الدراسة التي وفرت للدارس والقارئ معرفة طبيعة الشعر في نجد، وقبل أن ينتقل المؤلف إلى دراسة الشعر دراسة فنية، وضع بعض المقاييس الأدبية التي تمنح الشعر مزيداً من الجودة والسمو الفني، إذا توافرت فيه، ويعتمد عليها في الدراسة والتحليل والحكم الأدبي.
تحدث في قسم الدراسة عن الشعر: نشأته وتطوره، ألمح فيه إلى نشأة الشعر عند اليونان، وما امتازت به هذه النشأة من ارتباطها بالإيقاع الموسيقي، ثم ربط الشعر بالغناء، ثم عرج على الشعر عند العرب، وضرب الأعشى مثلاً للشعر المغنى، وذكر ارتباط الشعر والرجز بالحُداء، واستشهد على ذلك بأبيات تدلل على أن الرجز يوافق خطوات الإبل، وخلص إلى أنه بداية الشعر العربي، الممهد له، وهو المناسب نغماً للعربي الذي يحدو إبله بالغناء وفق خطوات ناقته أو بعيره. قدّم بعد ذلك لمحة عن مركز نجد في الشعر في العصور الأولى، وذكر أن نجداً احتضنت كبار الشعراء في الجاهلية والإسلام والعصر الأموي، وهي العصور الزاهية للاستشهاد اللغوي والنحوي بالشعر، وكانت نجد أيضاً ميداناً لأيام العرب التي كان تأثيرها في الشعر كبيراً مأثوراً، ثم بيّن أثرها في النهضة العربية الحديثة بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية السلفية، وما لقيته من دعم ومؤازرة من أئمة آل سعود، وما كان لها من أثر علمي وأدبي، ولاسيما في الشعر، وخلص في دراسته إلى الشعر المعاصر في نجد، والعوامل التي أسهمت في تطوره، وهي دراسة لصيقة بموضوع الكتاب، استقصى في هذا الحيّز من الكتاب كل ما يمكن أن يكون عاملاً وسبباً في تطور الشعر المعاصر في نجد، داعماً رأيه ببعض الآراء من مراجع معاصرة مثل الشعر وقضيته لإبراهيم العريِّض، ومقدمة ديوان شظايا ورماد، لنازك الملائكة، وألوان لطه حسين، وتضمن الاستشهاد بما قال ردّاً عليه في حديثه عن بدايات الشعر في نجد والجزيرة العربية.
وفي موضوع اتجاهات الشعر في نجد صنف شعراء نجد المعاصرين بحسب المذاهب الشعرية أو الاتجاهات التي ظهرت في تلك الأيام مثل: الكلاسيكية، والرومانتيكية، والواقعية، أصدر أول تصنيف لشعراء نجد المعاصرين الذين قدم نبذة عن حياتهم، ثم درس شعرهم وفق هذه المذاهب؛ فمن أصحاب نظرية الشعر التعليمية أستاذ الجيل حمد الجاسر، وخالد الفرج، وعبدالكريم الجهيمان وآخرون.
ويمثل الرومانتيكيين: عبدالله الفيصل، ومحمد الفهد العيسى، ومحمد الشبل، وحمد الحجي، وسعد أبو معطي، وعبدالله الجلهم، وإبراهيم الدامغ، وعبدالله السناني، ومحمد المسيطير، وعبدالله القرعاوي.
ويمثل المذهب الواقعي: ناصر أبو حيمد، وعبدالرحمن المنصور، وسعد البواردي، وصالح العثيمين، وعبدالله العثيمين، وعثمان بن سيار، وعبدالرحمن العُبَيّد، ثم أفاض في الحديث عن الاتجاه الواقعي، واستفاد في حديثه من كتاب الرومانتيكية لمحمد غنيمي هلال، بالنسبة للمذهب أو الاتجاه الرومانسي، واستشهد بنموذج شعري لمحمد الفهد العيسى، وآخر لعبدالله العثيمين، وأفرد صفحات للشعر الوجداني، أو الشعر الذي مبعثه وموضوعه الحب، ولا يريد به الحب الجنسي، أو القائم على الشهوة، ولكن يريد به الحب المنبعث من الروح الإنسانية والضمير الحي، وذكر من أعلامه الأمير عبدالله الفيصل، ومحمد الفهد العيسى، وخالد الفرج، واستشهد بنموذجين، أحدهما لعبدالله الفيصل، والآخر لخالد الفرج. وأسلمه مسار الدراسة إلى الاتجاه الواقعي، ويريد بالواقعية ((الدعوة إلى الأخوة العربية الإسلامية المتراحمة المتعاطفة، وتحث على الخير والفضيلة، وتنهى عن الشر والطغيان، ومن أهداف الواقعية في الشعر: إحلال المساواة بين أفراد المجتمع، وإزالة الفوارق التي لم يرد لها أساس في الدين، ولا مستند من العقل السليم..)).
ثم قال: هذه هي الواقعية الحديثة في الأدب النجدي، أو هي كما يجب أن تكون، ثم عدد مدلولات الشعر الواقعي، منها المدلول الاجتماعي، والمدلول السياسي، وهما واضحان في الشعر النجدي، وفي نهاية هذا المقطع أشار إلى بناء القصيدة بناء عضويّاً فنيّاً متكاملاً، يعتمد وَحْدة الموضوع، والتخلص من الأساليب التقريرية والخطابية، ومَثَّل للاتجاه الموضوعي في الشعر الواقعي الحديث بقصيدة ناصر أبو حيمد (بم تحلمون؟) وهي على نظام التفعيلة.
وبذلك ينتهي قسم الدراسة الأدبية والنقدية المستقلة، واستغرق هذا القسم ثلاثاً وخمسين صفحة من الكتاب.
أما القسم الثاني فيتضمن تراجم الشعراء، ودراسة موجزة لشعرهم، ومختارات منه، استهله بالشاعر محمد بن عبدالله بن عثيمين، فخالد الفرج، فالأمير عبدالله الفيصل، فناصر أبو حيمد، وتتابعت سلسلة الشعراء محمد الفهد العيسى، ومحمد السليمان الشبل، وعبدالرحمن المحمد المنصور، ومحمد العامر الرميح، وسعد البواردي، وعبدالكريم بن جهيمان، وصالح الأحمد العثيمين، وعبدالله الصالح العثيمين، وحمد الحجي، وإبراهيم المحمد الدامغ، وعثمان بن سيار، وسعد بن إبراهيم أبو معطي، وعبدالله بن إبراهيم الجلهم، وعبدالرحمن بن عبدالكريم العبيد، ومحمد المسيطير، وعبدالله القرعاوي، وعبدالله المحمد السناني، وإبراهيم العواجي، وعبدالله بن إدريس. وعدة من درسهم من الشعراء ثلاثة وعشرين شاعراً، وبعضهم صدرت عنهم دراسات ورسائل بعد ذلك، وكان هذا الكتاب الرائد دفع كثيراً من الدارسين إلى إفراد بعض هؤلاء الشعراء بدراساتهم وبحوثهم.
ومما لاحظته أن المؤلف اعتمد في الغالب على جهده الشخصي في الدراسة والتحليل، يدلنا على ذلك قلة المصادر التي رجع إليها، وهذا ما يحقق له الريادة، فمثل هذا الكتاب الذي يقع في ثلاثمائة صفحة حينما يصدره دارس معاصر من طلاب الدراسات العليا فإن مصادره ومراجعه لا تقل عن مائة وخمسين مصدراً ومرجعاً، وكثرة المراجع خاصة تقلل من الجهد الشخصي في البحث.
ومما يؤكد ريادته ويدعمها أنه صاحب أوليات في دراسته وعمله، فهو من أوائل الطلاب النجديين الذين غادروا بلدانهم الصغيرة إلى الرياض؛ لتلقي العلم الشرعي واللغوي على يد علمائها الكبار كالشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية آنذاك، وشقيقه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم الفرضي المشهور؛ فقد غادر بلدته حَرْمةَ عام 1358 هـ، وهو ما زال في ميعة الصبا؛ للدراسة على هذين العالمين وغيرهما من علماء الرياض، وكان لتتلمذه عليهما أثر في انتظامه طالباً في كلية الشريعة، ثم تخرجه في أول دفعة تخرجت في كلية الشريعة عام 1376 هـ، ويمكن أن أذكر أسماء زملائه الذين تخرجوا معه، ولكن أخشى من الإطالة؛ فقد أصدرت جامعة الإمام دليل خريجها من عام 1376 هـ إلى عام 1401هـ، وكان من أوائل من تولوا التفتيش الفني في الإدارة العامة للكليات والمعاهد العلمية، نواة جامعة الإمام الآن، وأول رئيس لصحيفة الدعوة الإسلامية عام 1384 هـ، وحظي برئاسة تحريرها باختيار من مفتي المملكة حينذاك الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ومكث أطولَ مدةٍ مكثها رئيسٌ لمجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض، فقد تجاوزت مدته عشرين عاماً، ثبتت أركان النادي، وضاعفت ندواته ومنشوراته، وفعالياته، وكان يحرص على الحضور مبكراً كل مساء طوال أيام الدوام، وعمل النادي أخذ كثيراً من وقته.
والموهبة غلبت التخصص؛ فكان يمكن بعد تخرجه في كلية الشريعة أن يصبح مدرساً لموادها، أو يندرج في سلك القضاء الذي رفضه رفضاً شديداً، ولكنه اتجه إلى الشعر والأدب والنقد وما يتصل بذلك من ثقافة استجابة لوحي الموهبة والرغبة؛ حتى ليظن من لا يعرف دراسته أنه تخرج في كلية اللغة العربية، أو كلية الآداب. ولاتجاهه الأدبي عين عضواً في رابطة الأدب الحديث في القاهرة عام 1382هـ/ 1962م، وكان رئيسها الناقد مصطفى عبداللطيف السحرتي، ونائب الرئيس الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي الذي آلت إليه رئاستها بعد وفاة السحرتي.
كان الرائد عبدلله بن إدريس أحد الأعمدة الرئيسة التي قام عليها المؤتمر الأول للأدباء السعوديين الذين انعقد في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة عام 1394هـ/ 1974م، وكان له أثر فاعل في فعالياته، فكان عضواً في لجنته التنفيذية المكونة من ثلاثة عشر عضواً، وعضواً في لجنة تقويم الأبحاث، المكونة من ثلاثة عشر عضواً أيضاً، وعضواً في لجنة الأدب السعودي المكونة من أحد عشر عضواً، وعضواً في لجنة الأدب السعودي المكونة من أحد عشر عضواً، وسكرتيراً للجنة أمانة المؤتمر المكونة من تسعة أعضاء، وكان من ضمن الأدباء الذين كرمهم المؤتمر، وقدم بحثاً عنوانه: الشعر في المملكة خلال نصف قرن.
في ذهني موضوعات كثيرة جديرة بالبحث والدراسة عن الأديب الرائد عبدالله بن إدريس، منها:
1- عبدالله بن إدريس: النشأة والتكوين.
2- ابن إدريس صحفيّاً.
3- ابن إدريس شاعراً.
4- ابن إدريس رئيساً لنادي الرياض الأدبي.
5- ابن إدريس ناقداً.
6- ابن إدريس كاتباً ومؤلفاً.
7- ابن إدريس موظفاً.
8- ابن إدريس ومواقفه الوطنية والإنسانية.
9- ابن إدريس وعلاقته الأسرية.
10- ابن إدريس وإسهامه في الدعوة خارج المملكة.
11- ابن إدريس في الندوات والمؤتمرات داخل المملكة وخارجها.
ويمكن لهذه العنوانات أن تعدل وترتب بما يناسب مقام البحث أو الدراسة.
كنت قد عقدتُ العزم على إعداد محاضرة تتضمن الحديث عن هذه الموضوعات أو بعضها، ولكنني اضطررت إلى كتابة هذه الصفحات القليلة؛ ليمكن إدراجها في الكتاب الذي ينوي نادي الرياض الأدبي إصداره بعد أيام، وما تحتاجه البحوث والدراسات من زمن طويل يعوق إخراج الكتاب الذي يراد له أن يخرج سريعاً، ولعل ما نويته يتحقق في مناسبة أخرى إن شاء الله.
** **
- أ . د. حمد بن ناصر الدخيل