حاوره - جابر محمد مدخلي:
أمام مشروعه يكتشف المرء القارئ له خاصة أو المتحدث معه عامة أن تونس ليست خضراء في أرضها فحسب، بل كذلك في علمها ونظرياتها التقدية الحديثه. العرب تطلق على الإنسان الممتلئ البطن (شبعان) وأما ضيفنا فعلى العرب أن تطلق على ذهنه (الشبعان) لأنه قطف من كل بساتين النقد واقتطع من كل أشجار المدارس النقدية المعاصرة شجرته الخاصة التي صنع من أخشابها ألواحاً يدق فيها دُسر فكره ويجلس عليها كماصة للتعلم والاستذهان. الأستاذ الدكتور علي عبدالعزيز الشبعان، القادم من تونس الخضراء لتضعه الحياة أمام مشهد ثقافي سعودي في أوج حراكه والذي بدوره قال عنه قبل حوارنا: «أتيت إلى السعودية وقد كانت الأسماء الناقدة هي الأشهر فيه ولكني انبهرت بالأسماء التي عرفتها طوال وجودي ومسيرتي هنا.. إنه مشهد مغدق في كل الفنون واليوم وفي عشرينيات هذه الألفية أجده أكثر تماسكًا في خطاه وأكثر تركيزًا فيما سيخلقه مركزًا لفنون إبداعية تخصصية وفردانية».
ولعلي أخبر قراء الثقافية بأن حوارنا هذا ليس إلا واحدًا من أهم محاولاته وجهوده الجبارة في بناء النظريات النقدية الأصيلة أو إعادة بنيتها بما يتوافق ويتصالح مع هذا العصر الأكثر مرونة وتيسير.. فإلى نص الحوار:
* لعلنا نفتتح حوارنا معكم من خلال مصطلح: (الأورغانون الجديد)؛ باعتباركم أحد المهتمين البارزين به في مشهدنا العربي: فكيف تعرّفونه؟ وهل تعتبرون هذا المصطلح مصطلحاً بسيطاً، أم مركّباً؟ ثم كيف أجريتموه في كتابكم؟
- لا بدّ من الإشارة، بدءًا، من جهة تأصيل المصطلح، وبيان منابته الإيتيمولوجيّة، إلى أنّ، لفظة: (الأورغانون/ Organon)، إنّما، ترتدّ، إلى المهاد الفلسفيّ اليونانيّ القديم، ومعناها المختصر، الوسيلة، أو الآلة الّتي بواسطتها، يدرك، الفيلسوف، بُغيته، أعني: إصابة الحقائق، في جواهرها، والوصول، إلى مراتبَ، من الحكمة عالية الّتي يجيزها التّأمّل، في المحدثات الوجوديّة، من جهة، كونها، أدلّةً شاخصة/ ظاهرةً، على قدرة (العقل الأوَّل) الذي يَستدِلّ، ولا يُستدَلّ، عليه، كما، تُطلق لفظة: (الأورغانون) على مجموع كتب (أرسطو) في المنطق، وهي على التّوالي: (إيساغوجي) ويُسمّى، كذلك (المدخل) وقد وضعه (فرفريوس الصّوريّ) لبيان كلام (أرسطو) وشرح المستغلَق، فيه/ (قاطيوغورياس) وتُسمّى، كذلك،(المقولات)/ (باري أرمانياس) وتُسمّى كذلك: (العبارة)/ (أنالوطيقا الأولى) وتُسمّى كذلك (التّحليلات الأولى) أو (القياس)/ (أنالوطيقا الثّانية)، وتُسمّى، كذلك، (التّحليلات الثّانية)، أو (البرهان)/ (طوبيقا)، أو (الجدل)/ (سوفسطيقا)، أو (السّفسطة)/ (ريطوريقا)، وتُسمّى، كذلك، (الخِطابة)/ (بويطيقا)، أو (فنّ الشّعر)). وليست، تعنينا، في كتابنا: (الأورغانون الجديد)، طرائقُ (أرسطو) المفردة، في تأويل كسموسه الأنطولوجيّ الإغريقي القديم، لأنّ، لكلّ ثقافة، خواصَّها، ولكلّ حضارة، منطقَها، بقدر ما تعنينا، من اِستضافة فلاسفة يونان، وغيرهم، الطّريقةُ التّي بواسطتها، يقع الباحثُ، في عصرنا، على أسرار السّؤال الفلسفيّ، فيخطف، من الفيلسوف، شعلتَه العقليّةَ، ليمضي، بها، بعيدا، في فكّ مغالق ثقافته، فتتّسع، الرّؤى، وتتنامى، النّواتجُ.
ومن هذا المنطلق المعرفيّ الّذي يشتقّ، من المذاهب الفلسفيّة سرَّها البدئيَّ ويعتصر من المناحي الفكريّة رحيقَها البهيَّ أجرينا، في كتابنا: (الأورغانون الجديد) بأجزائه الخمسة: ((كتاب الهاوية) (كتاب البرهان) (كتاب الذّوق)/ (كتاب الوجد) (كتاب التوحّش) مصطلح: (الأورغانون الجديد) على غير ما أجراه عليه (أرسطو) حتّى نخلّص المصطلحَ من وطأة المنطق عليه، ونحرّرَه من جفافه المعطِّل، لنعني به الآلة المعرفيّة/ الفلسفيّة الّتي بواسطتها يقدر المفكّرون في متون الثّقافة العربيّة التّراثيّة على الضّفر بالأنظمة المعرفيّة الّتي قامت عليها دوحة الثّقافة ا لعربيّة يُرسل فيها سهام النقد ويرميها بمنجنيقات المراجعة حتّى، يقدر المفكّرون العربُ على أن يعيدوا إلى ثقافتنا ألقَها القديم، ويرجعوا، إلى حضارتنا، فعلَها المستديمَ؛ ولذلك دار (الأورغانون الجديد)- اِنطلاقا من هذه الرّؤية الفلسفيّة الموسّعة- على تجلية القوانين الجامعة الّتي اِنحكمت، إليها، الأنظمة المعرفيّة، في الثّقافة العربيّة، والإسلاميّة، من خلال النّظر في هوامشها المبعدَة والجوس في متونها المنسيّة. وقد اِستضاف (الأورغانون الجديد) ما أثمره الفكر الفلسفيّ: قديمه، والحديث، عربيّه، والغربيّ من سؤالات تمسّ، الكائن في وجوده المتغيّر، يُحدث أشكالا رمزيّة تطبعها، الحؤولة ويخصّصها، الاِختلاف وهذا دليلٌ على ثراء التّجاريب، وتركّب الأنساق، فلا مماثلة، ومطابقة. ومن ثمّة، كانت طِلباتنا المعرفيّة، من (الأورغانون الجديد)، طِلبتين/ غايتين اِثنتين أساسيّتين:
• إيقاظ عقول المتخصّصين، في علوم العربيّة، على ضرورة التّسلّح بالفكر الفلسفيّ النّاقد كما، تسلّح أسلافُهم بذلك، قبلَهم: (الجاحظ) (اِبن سينا) (اِبن رشد) (الفارابيّ) (حازم القرطاجنيّ... وغيرهم) حتّى تتّسع، مدارك تأويل الأشكال الأدبيّة، وغيرها، تأويلا، يجوس، في بواطن النّصوص، جوسا فلا تسطيح ولا اِستعجالَ.
• إعادة ترتيب خزائن التّراث العربيّ، والإسلاميّ: الأدبيّة، والفلسفيّة، وغيرهما، من الأفانين، والمعارف، ترتيبا، ينخَل، الأصولَ، ويفكّك، المزاعم التّأويليّة الّتي راكمتها الأعصر الدالفة، وشرعنها الفاعلون، حتّى صارت أقربَ، إلى العقائد لا يطولها شكٌّ ولا يعتور عليها فساد الأعراض، فتعطّلت، أدفاق الفكر الحيّ، وساد الزّيف، وتكاثر، الاِدّعاء.
وإنّ منتهى الغاية من (الأورغانون الجديد) إنّما تدور على التّبشير بمنحى من التّفكير مختلف، نقيم، بواسطة إجرائه، وإنفاذ فرضيّاته المعرفيّة، الحجّةَ على إمكان ردّ هوامش الثّقافة، إلى مركزها بعد تخليص أنماط التّصنيف من الأحكام المسبقة الّتي أغلّت، توثّبَها، الأدلوجاتُ القاهرةُ، والمواقفُ المتطرّفةُ، والمزاعمُ الزّائفةُ، فلا تطويرَ، ولا إغناءَ؛ ولذلك أعتبر، سؤالك - أستاذ جابر- سؤالا وجيها؛ لأنّك، فطنت من خلاله إلى أنّ، لـ(مصطلح: الأورغانون الجديد)، أمديةً متراميةً، توسّع، حقله، وتمدّد معناه، حتّى يصير آلة فعّالة في تأويل الأنساق الثّقافيّة، وتقرّي الأنظمة المعرفيّة بواسطة، (المداميك الفلسفيّة) العاتية التي تزوّد الباحثين في علوم العربيّة خاصّةً، وفي العلوم الإنسانيّة عامّةً بما يسمّيه فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسيّ: (جيل دولوز) يوجِد، للفلسفة تعاريفَ ويشقّق، للحِكمة، حدودا بـ»مضادّات حيويّة» تحصّن الإنسانَ، من الحُمق وتقيه، من البلاهة فتتراجع، الغفلةُ، ويتنبّه، العقلُ.
* هل، تجدون أنفسكم من المهتمّين بـ(عصر ما بعد الحداثة) وما أنتجه من رؤى وفلسفات دون اِستحضار عصر الحداثة وما أنتجه - هو الآخر- من تصّورات وتأويلات؟ وهل يمكننا من وجهة نظركم فصل العصرين وعزل الفلسفتين، أم إنّ لكم تصوّرا نظريّا مختلفا ورؤيةً فلسفيّة مباينةً؟
- أجد في سؤالك محاولة لدمجنة رؤى متعددة لتستخلص منها للقارئ ما فيه أهمية تتناسب مع عصره الحالي- هذا سؤال ذكي- فالاِنتماء إلى العصر يحتّم على الإنسان التّفاعل مع ما، أنتجته العقولُ العالمةُ من أنساق معرفيّة ومناحيَ فكريّة وأشكالاً رمزيّةً، ومقارباتٍ نظريّةً، وفتوحاتٍ علميّةً. ومن هذا المنطلق أجد نفسي مدفوعاً دفعاً من جهة كوني أنتمي إلى عصر اِصطلح عليه المنظّرون «زمن ما بعد الحداثة: وهي الفترة الممتدّة، تاريخيّا من: 1970-1990م ويُقصد بمصطلح: (ما بعد الحداثة) « النّظريّات الفكريّة والتّيّارات الأدبيّة والمدارس الفلسفيّة الّتي تشكّلت بعد تركّز الحداثة البنيويّة، والسّيميائيّة، واللّسانيّة في (زمن ما بعد الحداثة) إنّما جاء لتقويض ما قَبْلَه وتفكيك ما قامت عليه (فلسفة الحداثة) الغربيّة من تمركزات: (التّمركز حول العقل، واللّغة، والصّوت، والعِرق) وتخليص هذه التّمركزات ممّا كان يشقّها في داخلها من سلطان «ميتافيزيقيّ» أظهر غيب النّظريّة وفكّك مناظيمها الواهمة. وقد تبايت المواقف واِختلفت، الرّؤى في شأن تقويم ما آلت إليه المراجعات الـ(ما بعد حداثيّة) للنّواتج الحداثيّة أَوْجزها بعض الدّارسين في أربعة منظورات هي:
• المنظور الفلسفي: ويرى أصحابه «(...) أنّ (ما بعد الحداثة) دليلٌ على الفراغ في غياب الحداثة نفسِها».
• المنظور التاريخي: يرى، حاملوه «أنّ (ما بعد الحداثة) حركة اِبتعاد عن الحداثة، أو رفضٍ لبعض جوانبها.
• المنظور الإيديولوجيّ السياسي: ويرى، القائلون به»أنّ (ما ب عد الحداثة) تعريةٌ للأوهام الإيديولوجيّة الغربيّة (...)».
• المنظورالإستراتيجيّ النّصوصيّ: ويرى القائلون به أنّ مقاربة نصوص (ما بعد الحداثة) لا تتقيّد بالمعايير المنهجيّة وليست ثمّة قراءةٌ واحدةٌ بل توجد قراءاتٌ منفتحةٌ وتأويلاتٌ متعدّدةٌ فلا ثباتَ ولا قرارَ (...).
ومهما تكن المواقف من عصر (ما بعد الحداثة) فإنّ من واجب الباحثين في عالمنا العربيّ وهم يتلقّون نواتج الفلسفتين أعني بذلك: (فلسفة عصر الحداثة)، و(فلسفة عصر ما بعدها) باعتبارها ضربا من تفكيك ما اِعتبره روّاد عصر (ما بعد الحداثة) زيفا وتضليلا يحتاج كلٌّ منهما إلى التّقويض والمراجعة، حتّى تينع تباشير (الإنسان الجديد) يحمل ألوية الفكر النّاقد الّذي، يؤمن أصحابُه بأنّ مشروع ما بعد الحداثة إنّما يمثّل -هو الآخر- ضربا من سيرورة غير مكتملة تحتاج - هي الأخرى- نقضاً ومراجعة.
تلك هي سمات الفكر الحيّ الذي لا يَضِيره التّعابث بما أنتج والاِنتقاض على ما أبدع فلا سكون ولا تعطيل. واِستنادا إلى هذه الرّؤية الفلسفيّة النّاقدة فإنّه لا يجوز أن نتأوّل فلسفات (ما بعد الحداثة) دون أن نستحضر (فلسفات الحداثة).
فأنا أذهب مذهبا يختلف عن مذهب الإبستيمولوجيّين أو فلاسفة المعرفة الّذين يقولون بمبدأ القطائع في التّأريخ لمسارات العلوم، والمعارف إذ أرى أنّ الفلسفاتِ مترابطةٌ تتقدّم بالتّراكم وتختلف بما يمليه عصر كلّ نظريّة من خواصَّ فكريّة وأسيقة معرفيّة تفرض على الطّبقة العالمة تعديل مزاعمها حتّى لا يُصاب الفكرُ بالجمود وتتعطّل في العقل طاقة الإخصاب.
* كانت لكم إشارات مهمة تستوجب التوقف والتأمل، وكان ذلك في لقاء استضافكم فيه (منتدى: باحثون) المُدار من طرف الدّكتورين الفاضلين: عليّ زعلة وأحمد المخيدش.. إلى جهود الباحثين العرب في تجديد الفكر وتحديثه وتطوير طرائق تأويله، حتّى يواكب عصرَه ويساير محدثاته، ومن بين هؤلاء الذين اعتبرتهم روّادًا في انتحاء هذا المنحى التحديثي ذكرتم أسماء مؤثرة في مشهدنا الثقافي العربي: (عبد الله الغذّامي) و(علي أحمد سعيد- الشهير: بأدونيس) و(محمّد أركون) و(عبد المجيد لشّرفي)، و(محمّد عابد الجابري) و(حمّادي صمّود) و(منصور الحازمي) (سعيد السريحي) و(سعد البازعيّ) و(ميجان الرويلي) وغيرهم...) فهل لكم أن تذكروا لنا ولقارئ الثقافية - باختصار- أفضالهم المعرفيّة وفتوحهم المنهجيّة؟ وهل تجدون في مشاريعهم - رُغم جرأتها وكثرة آمالها- حدودًا أو نواقصَ تحتاج تقييمًا وتتطلب تقويمًا يجعلها أكثرَ نفعًا وأظهرَ فعلاً...؟
-أهلًا أخي العزيز جابر، ودعني في البدء أتوقف أمام سؤالك الطويل المتفرع، والعميق الدال على ثراء معرفي واضح؛ وذلك نظرًا إلى ما حواه من إشارات شمولية ولطيفة إلى مشاريع العرب في «التحديث»، و»التّجديد» بدءًا من عصر النهضة العربية: (رشيد رضا، الكواكبيّ/ محمّد عبده وغير هؤلاء كثير...) وصولاً إلى زماننا وهذا دليلٌ قطعيٌّ على أنّ انشغال المفكّرين العرب -منذ بدايات القرن العشرين- بقضايا العصر وتطوير كيان الإنسان العربيّ إنّما هو انشغال أصيلٌ في الفكر العربي الحديث والمعاصر. ولكنّ مشاريع التحديث تلك قد أدرك أغلبَها ضربٌ من الوَهن جعلها مشاريعَ منقوصةً لا تبلغ غاياتها ولا تصيبُ طِلبَتَها، فكأنّ قَدَرَها أن تبقى مثلومةَ البناءِ مدخولةَ الانتماءِ؛ ولذلك، عاد المفكّرون العرب المعاصرون - كلٌّ من منطلق رؤيته- إلى مشاريع النّهضة العربيّة يتقرَّوْن خطابات أصحابها ليقعوا على نواقصها ومواطن القصور فيها فيستأنفوا التّفكير في خطابات أولئك الروّاد؛ لإظهار ثلماتها وتجلية إرباكاتها حتّى تكون مشاريعُ تحديث الثّقافة العربيّة مشاريعَ تمتتح من العصر أجود آلاته وأقدر فلسفاته من جهة ما لتلك الرّوافد المنهجيّة، والمعرفيّة، والفلسفيّة، من آثار بيّنة في فهم الأسباب الأصليّة، والعلل البدئيّة التي حالت بين روّاد النّهضة العربيّة، وغاياتهم، في جعل الثّقافة العربيّة تتخلّص من معوّقات التحديث لتواكب عصرَها وتناكب زمانَها.
وقد أوردت- أخي جابر في سؤالك هذا أعلامًا في التحديث بارزين: مشرقًا، ومغربًا، فأشرت، - تمثيلاً، لا حصرًا- إلى الدكتور: (عبد الله الغذّاميّ) الذي وصلتنا كتاباتُه إلى تونسَ، في زمن مبكّر، وقد ذكر لنا أفضالَ هذا الرّجل، - مذ كنّا طلاّبًا في الجامعة التّونسيّة- أستاذُنا: (حمّادي صمّود) والذي كانت تربطه، بالدكتور: (الغذّاميّ)، علاقاتٌ حميمةٌ، وتصله، به وشائجٌ صميمةٌ. وقد استطاع (الغذّاميّ) من خلال كتبه العديدة، ومؤلّفاته المديدة أن يرسل في متون الثّقافة العربيّة والإسلاميّة (سهام النّقد) ويوجّه إليها (مداميك المراجعة) وَفق سمت معرفيّ هادئ، رصين ينسرب في أعماق الخطابات المتشكّلة ليكاشف أسرارها الخفيّة وليظهر بدائعها البهيّة، فتظهر للنّاس على عكس ما قدّرته (ألفة القرّاء) أو سار على سَمته الباحثون وقد حجبت عنهم (الغفلةُ الشّاردةُ) مكائد الخطابات ومكرها. وما كان للغذّاميّ أن، يبلغ هذا المصاف النّقديّ العميق لولا تسلّحه بمبادئ الفكر النّاقد وخاصّة المنحى التّفكيكيّ القائم على تقويض الأنساق المنسجمة ظاهرًا؛ ليبثّ في تجاويف خطاباتها ضربًا من الإرباك المؤسِّس يُخرجها على صورة مختلفة، وينشئها في هيئة أخرى من الخلق وقد خلّصها التَّساؤل الفلسفيّ من زيفها المتراكم، وخفائها المستراب. ولذلك، أعتبر- شخصيّا- تجربة الغذّاميّ النّقدية تجربة جريئة، استطاع صاحبها من خلال ما استحصل من مناويل الفلسفات المعاصرة أن يستحدث دربًا في تأويل المتون التّراثيّة مختلفًا، وأن يجترح من عميق تلك النّظريّات آلةً مستحدثة تتوافق وخواصَّ الثّقافة العربيّة بها يفهم أنساقها ويتأوّل من خلالها نُظمها، فلا إسقاط ولا افتعال.
كما جاء في عرض سؤالك أيضًا ذِكرُك لـ «أدونيس - عليّ أحمد سعيد «باعتباره رأس الحداثة الأبرز في عصرنا و(أدونيس)- كما تعلم- جمع في تجربته بين الإبداع الجماليّ، والتّنظير النّقديّ جمعًا فريدًا، قلّما يتوفّر لأحد عدا قلّةً قليلةً كان هو أبرز أعلامها، فتصدّر تلك الطّبقة فمازها بأعماله وزانها بأقواله.
وقد أثارت أفكار (أدونيس) بدءًا من أطروحته المعلم: (الثّابت والمتحوّل) بأجزائه الأربعة وصولاً إلى (دفاتر مهيار الدّمشقيّ) جدلاً بين النّقاد حيًّا بدا فيه الفكرُ العربيُّ المعاصرُ رُغم نواقصه الظّاهرة وتحيّزاته البيّنة فكرًا متحرّكًا يتضمّن وعيًا ثاقبًا بضرورة إعادة النّظر في المسلّمات التي قامت عليها الثّقافة العربيّة حتّى تكون المراجعةُ ممكنةً والتّجديدُ متاحًا، فلا كوابحَ ولا موانعَ.
وأمّا عن مشروع الدّكتور: (عبد المجيد الشّرفيّ) فهو مشروعٌ غايته إقامة الحجّة على أنّ الثّقافة العربيّة والإسلاميّة حتّى تستأنف، عملها وتستردّ ألقها إنّما تحتاج إلى إعادة النّظر في الأنساق التّأويليّة المكرَّسة التي أنشأها الأوائلُ تلبّي حاجاتِهم في أزمنتهم وليس بالضّرورة أن تتوافق حاجات الأسلاف مع حاجاتنا؛ إذ لكلّ عصر أسئلتُه، ولكلّ زمان فاعلوه. ومن منطلق هذا الوعي الفلسفيّ الجسور أعاد الأستاذ: (الشّرفيّ) النّظر في المتن التّراثيّ العربيّ ليجلوَ بدائعه ويظهر لطائفه بعد تخليصها من شوائب الزّيف ومكر الأدلوجات الموجِّهة التي عطّلت أفعالَها وأجّلت مآلَها، فلا تحديث ولا تجديد.
ولا يسمح المقام- ههنا- بتفصيل القول في مشاريع من ذكرت من روّاد التحديث في عالمنا العربيّ المعاصر ولكن ما أودّ الإشارة إليه أنّ أولئك الأعلام - رُغم اختلاف قناعاتهم، وتباين مواقفهم وافتراق فلسفاتهم- إنّما يوحّدهم خيطٌ ناظمٌ رئيسٌ مداره على ضرورة إعادة ترتيب خزائن التراث العربيّ، والإسلاميّ بعد تنقيتها من شوائب الادّعاء وتخليصها من معالم الزيف التي لبّسها أصحاب المصالح بتلك المتون فغابت الآثار وتوارت المنافع.
إنّ جميع من تعرض لهم سؤالك سواءً ممن أدليت برؤاي حولهم أو ممن لم أطرح يندرجون بأهمية قصوى في مشاريع العرب الفكريّة المعاصرة التي تروم تجديد أنساق الثّقافة العربيّة وقدح شرارة التحديث في بناها وأنظمتها مشاريعُ طموحها كبيرٌ، الأمر الذي حال بينها وبين إنفاذها إنفاذا مستتمّا نظرا إلى تشعّب المسالك وتشتّت الإرادات.
ومن هذا المنطلق فإنّه من الواجب على الطّبقات العالمة أن تستكمل رجاءات المؤسّسين حتّى لا تتوقّف طاقات الدّفع في ضمائرنا ويكون مستقبلنا الحضاريّ أبهى من سوالف عهودنا: تطويرَ ذهنٍ، وإنجازَ حُلم، فيعود إلى الثّقافة العربيّة، ألقُها الأوّلُ بعد أن أزال عنها الفكرُ النّاقدُ غشاوات الحَجْب، وأبعد من طريقها أردية الزّيف فلا تعطيل ولا ممانعة.
* كيف تنظرون إلى المشهد الثّقافيّ العربيّ بوجه عام، والمشهد الثّقافيّ السّعوديّ - في العشريّة الأخيرة- بوجه خاصّ؟ وهل ترون أنه بات من الواجب أن، تحظى المشاريع الثّقافيّة الرّائدة داخل المملكة وخارجَها برعاية مؤسساتية حكوميّة أو أهلية حتّى يقع التّعريف بفكر المفكّرين، وتّرويج إبداعات المبدعين؛ فتحصل المنفعةُ ويعمّ العطاءُ، ولا تفتر الهمم الطامحة في الابتكارات الإبداعية؟
- إنّ الحديث عن المشهد ا لثّقافيّ العربيّ عامّةً وعن المشهد الثّقافيّ السّعوديّ خاصّةً إنّما هو حديثٌ عن حركة الفكر في مواجهة الرّاهن المتغيّر، وهو كذلك حديثٌ عن دور المثقّف في تقييم واقعه وتقويمه حتّى يصير الواقعُ صورةً مقدودةً من أحلام المثقّفين الذين يتطلّعون إلى إرساء عالم تجد فيه إرادة المثقّف ما إليه تصبو.. أعني نقد (الواقع الرّاهن) والعمل على تغييره في اتّجاه إرساء سُنن ثقافيّة تترجم حاجات الإنسان المعاصر الذي بات يعيش اليوم في عالم متغيّر تغزوه الوسائط المتعدّدة، وتطغى على إرادات فاعليه الأدلوجات القاهرة، واختلاق الأزمات المتكرّرة. ومن هذا المنطلق فإنّ المشهد الثّقافيّ في العالم العربيّ، عامّةً وفي المملكة العربيّة السّعوديّة خاصّةً إنّما اتّسم في العشريّة الأخيرة بضرب من الثّراء الواضح المتجلّي في كثرة المواقف التي يتّخذها المثقّفون من الأحداث الرّاهنة التي تحدث في عالمهم أو تنجم في العوالم المجاورة، والمجالات المتاخمة. وهذا دليلٌ قطعيٌّ على أنّ المثقّف العربيّ شأنُه شأنُ نظرائه في (العالم المتقدِّم) قد بات واعيا بضرورة أن يتعاطى مع واقعه الواقعيّ تعاطيا نقديّا يقف على نواقصه ويُظهر قصور رؤاه وحدود مجتباه، حتّى يتسنّى له، فيما بعد تقديم البدائل الثّقافيّة المناسبة التي، بواسطتها يزداد ثراء المشهد الثّقافيّ ومن خلال إنفاذ تلك البدائل تعود للمثقّف أدوارُه الرّائدةُ أعني بذلك: قيادة المجتمع ورسم الدّروب أمامه حتّى يخرج من الدّوائر السّالبة ليحلّ داخل الدّوائر الموجبة، فتحدث في المجتمع نهضةٌ تغيّر البنى الثّابة وتستبدلها بمشاريع ثقافيّة متحوّلة تواكب في أحلامها الإراداتُ الثّقافيّةُ المؤمنةُ بالتّغيير تغييرِ الواقع ما يجري في العالم من ديناميّات ثقافيّة تتّجه نحو مصافٍ من إحداث رحب تتجلّى في خطابات أصحابه أحلامُهم المتدفّقة، وإراداتهم المتطلّعة.
ولعلّ إقامتي في المملكة العربية السعودية الممتدّة على أزيدَ من أربع عشرة سنةً سمحت لي بأن أخالط بعض المثقّفين أمثال: (محمّد العليّ/عبد اللّه السّفر، إبراهيم الألمعيّ، محمّد الثّبيتي...) وأن أتعرّف، إلى بعض الأكادميّين في الجامعات السّعوديّة أمثال: (عبدالله الغذّاميّ/ سعيد السّريحيّ/ سعد البازعيّ/ ميجان الرّويليّ...) وقد كانت هذه المخالطة في إطار المنتديات الثّقافيّة التي كانت تشرف عليها الهيئات الثّقافيّة الرّسميّة أو الدّيوانيّات الخاصّة. وقد كان يصحبني فيها الأخ الصّديق/ الدّكتور: (عبد العزيز آل سليمان) فصارت بيني وبين المشهد الثّقافيّ السّعوديّ ألفةٌ وحدث بيني وبين فاعليه هيامٌ فكتبت في بعض تجارب أعلامه دراساتٍ نقديّةً ومقاربات جماليّة، أظهرت، لي - في وضوح وجلاء- أنّ لهذا المشهد المتحرّك سماتٍ خاصّةً تدور في جملتها على الإحداث الشّكليّ، والتّوليد الدّلاليّ والتّنويع الموضوعاتيّ.
وهذا، دليلٌ على أنّ إرادات الأدباء والمثقّفين السّعوديّين- في العشريّة الأخيرة- إنّما تتّجه في جملتها إلى تأسيس رؤية ثقافيّة يؤمن أصحابها بضرورة جعل المحدثات الإبداعيّة محدثاتٍ يسمها الثّراء ويمهرها التّعدّد تساوقا مع ريح العصر فلا مهادنة، ولا تأجيل.
وأعود فأؤكد بأن المشهد الثّقافيّ السّعوديّ - في عشريته الأخيرة- إنّما يمثّل آيةً من آيات الفعل الحيّ الذي قامت على إنفاذه مؤسّسات الدّولة الثّقافيّة فكانت الأندية الأدبيّة مثلاً بوصفها راعية لهذا الحراك الثّقافيّ بمثابة مؤسّساتٍ قائمة برأسها تؤازر هذا الفعل الخلاّق وتقدّم للقائمين عليه الدّعم الماديَّ، والمصاحبة الرّمزيّة حتّى يكون العطاءُ أظهرَ، والفعلُ أبينَ، فلا تردّد، ولا انكفاءَ...
علي بن عبدالعزيز الشبعان أستاذ تحليل الخطاب المشارك بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل بالدمام، وعضو مخبر تحليل الخطاب، بكليّة الآداب، والفنون والإنسانيّات بمنّوبة، بتونس: