د.محمد بن عبدالرحمن البشر
احتاج الناس في جميع أصقاع الدنيا إلى الكلمة والمهنة، ولا يمكن الاستغناء عن أي منهما، فلا شك أن لكل متعته الخاصة وحاجة الناس إليه، والكلمة في أزمنة مضت كان لها باع طويل، وتأثير كبير، لأن الشعراء يقولون كلمة يرفعون بها أقواماً ويخفضون بها آخرين، ولنا في القصة المشهورة عن بني أنف الناقة الذين كانوا يأنفون من هذا الاسم، ثم ذهبوا إلى الشاعر المشهور الحطيئة ليقول شيئاً من الشعر يكفيهم ما يلقونه من هذا الاسم غير المستحسن، فقال فيهم شعراً، أصبح على كل لسان، وسارت به الركبان حيث قال:
قَومٌ هُمُ الأَنْفُ والأَذْنَابُ غَيْرُهُمُ
ومَنْ يُسَوِّي بأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا
وجاء الإسلام وشجع الناس على تعلم المهن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة في ذلك فكان يحتطب، ويرعى الغنم، ويساعد أهله في أعمال المنزل، وكان يحث الناس على ألاَّ يفرطوا في وقتهم وأن يستثمروه أفضل استثمار.
كان الفلاسفة الأوائل في الشرق الأوسط، سواء في اليونان، أو في العالم الإسلامي، مثل أفلاطون، وأرسطو، وفيثاغورس، وابن سينا، وجابر بن حيان، وابن ميمون، أطباء ومهندسين وفي نفس الوقت فهم يحملون المهنة والكلمة معا، لتعبر الكلمة عما يحملونه من علم غزير، ولهم باع طويل في المجال الذي اختاروه لخدمة أنفسهم، وخدمة البشرية جميعاً، وفي الحقيقة أن أولئك أورثوا للمجتمعات الكثير من العلوم، ومهدوا المسالك للاستفادة منها في حياتهم العلمية والعملية والثقافية، وكان لكل مجتمع خصائصه في المهنة فالعربي يحتاج إضافة إلى معرفته بالكلمة التي أبدع فيها وتميز عن غيره بها إلى ما يقتات به من خلالها مثل الرعي، وزراعة النخيل، وبعض الصناعات الخفيفة التي يستخدمها في حياته المعيشية المتميزة والمتناسبة مع ثقافته وطبيعة أرضه.
ما دفع للكتابة هو جدل ليس من ورائه طائل حدث بين رجلين في العصر العباسي الوسيط، احدهما أديب، وآخر مسؤول عن ديوان الحساب، وقت تجادلا، وارتفع صوتهما حتى وصل إلى مسامع الوزير، ثم بعد ذلك دخل الأديب على الوزير، فسأل الوزير عن سبب ذلك الجدل وارتفاع الصوت، فذكر له أن الرجل المسؤول عن ديوان الحساب، كان يحط من قدر الأدباء والمنشئين، وأنه يرى أن الإنشاء ليس له مردود عملي على المجتمع، بينما تقدم المحاسبة خدمات جليلة وعملية يستفيد منها الحاكم والمحكوم، ولهذا فهو لا يرى ميزة للإنشاء، بينما يرى أن المهن هي التي تقدم خدمة عملية، والحقيقة أن الجدل حول هاتين النقطتين يمكن بكل بساطة حسمه في دقيقة واحدة، لأن لكل منهما أهميته الخاصة والعامة، لكنه الجدل الذي فيه شيء من الاستمتاع في بعض الأحيان، وأيضا فيه ضياع للوقت والجهد، وقد يؤدي إلى المنافرة بين الأفراد، مما يؤثر في المجتمع بأسره، وهذا ما نراه ونسمعه حول مواضيع ليس للإنسان فيها باع، ولا يمكن أيضا التأثير فيها، لأنها فوق صلاحيته، لكنها طبيعة الإنسان الذي يحاول أن يتحدث فيما يراه صواباً، وأن ينقل أفكاره للآخرين مجتهداً فيما يقول، وقد يكون مخطئا أو يكون مصيباً، والحقيقة أن الإنسان بطبعه يريد أن يعبر عما في مكنون نفسه مستخدما أدواته المعرفية والفلسفية وقدرته على الإقناع.
قال مسؤول المحاسبة، إن المحاسبة أنفع وأفضل للسلطان، وهو إليها أحوج وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير، حيث إن الأدب والإنشاء فيه الكثير من الهزل والتشاؤم، والتفاؤل، والكذب، والخداع، وليس كذلك في الحساب والتحصيل والتفصيل لأنها صناعة معروفة بالمبدأ موصولة بالغالية، حاضره الجدوى، سريعة المنفعة. واسترسل قائلاً إن البلاغة شبيهة بالسراب، كما أن الحساب شبيه بالماء، ومن عيوب البلاغة أن أصحابها يسترجعون ويستحمقون، وكان الكتاب في مجالس الوزراء في ذلك العصر، يقولون اللهم إنا نعوذ بك من رقاعة المتشدقين، وحماقة المعلمين وركاكة النحويين، وهؤلاء تجمعهم علاقات كثيرة، أما أنا فأقول إنه قد أخطأ في قوله عن المعلمين، فهم من أشرف الناس مكانة وأكثرهم تقديراً وتقديماً للخير، فبهمتهم تعلم الجميع، وبرز العلماء، ولولا الله ثم المعلم ما تمكنت البشرية في هذا المستوى من التقدم العلمي والأدبي والمعرفي.
طال الجدل بين الاثنين في كلام طويل وفلسفة زائدة ليس لها مردود عملي للوصول إلى الحقيقة، ولكنني سأقتصر الرأي على جملتين قالهما الأديب، رداً على ذلك المسؤول عن ديوان الحساب، حيث قال بعد أن لحاه وتحدث إليه بكلام فيه شيء من الشدة قال: ومن ذا الذي يشرب فلا يسكر ولا يثمل، ومن ذا الذي إذا سكر عقل، ومن ذا الذي إذا صحا لا يعتقب من شرابه خماراً يصدع الرأس، ويمكن الوسواس؟
جدل ليس له معنى أليس ذلك قائم الآن حول مواضيع لا تستحق؟