د. عبدالحق عزوزي
بدأت تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تظهر إلى العلن وتحدث هزات متتالية في العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف... فالاتحاد الأوروبي يضم 28 دولة، وهو تكتل جهوي وإقليمي يجمع دولا متعددة ومختلفة اقتصاديا وسياسيا، وتعرف حدودها في السنوات الأخيرة غيلانا غير مسبوق بسبب عوامل الهجرة والموقع الجغرافي الحساس... ونفهم حجم التخوف الذي ينتاب الأوروبيين وعلى رأسهم الدولتان المحوريتان ألمانيا وفرنسا من خروج بريطانيا من دائرة الاتحاد الأوروبي، والكل يعلم أن لبريطانيا موقعا متميزا في سلم النظام الدولي بفعل قوته الاقتصادية والمالية، وقدم ديمقراطيته ومؤسساته السياسية وتنوع روافده البشرية؛ زد على ذلك أن بريطانيا لم تر يوما من الأيام بعين الرضا أن تكون خاضعة لقرارات أوروبية ملزمة لها في سياستها الداخلية والخارجية وهو ما يفسر البريكست الذي بموجبه حدثت تغييرات تنعكس اليوم على تنقل الأشخاص وتبادل البضائع وفي مجال التعاون الاستراتيجي...
فقد أعيد استخدام جوازات السفر مجددا بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، وتطبق اليوم شروط مفروضة على الوافدين الجدد، إذ تمت المصادقة على اتفاقية المعاملة بالمثل لدى غالبية الدول لحماية المغتربين البريطانيين والأوروبيين المقيمين في المملكة. فالأوروبيون الراغبون في الذهاب للعمل في بريطانيا يخضعون لقواعد جديدة، حيث إن حصولهم على تأشيرة عمل سوف يستلزم تحقيق شروط أربعة: الحصول على وعد بالتوظيف، وأن يزيد الراتب على 28500 يورو سنويا، وكذلك توفر الكفاءات المطلوبة والتكلم باللغة الإنجليزية. وستكون تأشيرة العمل ضرورية أيضا للبريطانيين الراغبين بالعمل في الاتحاد الأوروبي... كما تم الانتهاء من برنامج إيراسموس وهو برنامج للتبادل الطلابي الأوروبي، الذي اعتبره بوريس جونسون مكلفا للغاية. فلمواصلة الدراسة في الضفة الأخرى من المانش، سيحتاج الطلاب الأوروبيون (وهم اليوم 150 ألف طالب) إلى الحصول على «تأشيرة طالب» ودفع رسوم دراسية أكثر ارتفاعا مما كانت عليه...
ويفهم المتضلعون في تاريخ المملكة المتحدة السياسي والديمقراطي، أن القوميين البريطانيين وغيرهم لم يستسيغوا يوما ولمدة عقود فرض سلطات من دول ومؤسسات حديثة العهد بحديقة الدول الليبرالية والديمقراطية عليهم، ليجدوا أنفسهم على نفس القصعة الأوروبية، حيث سيادة المحاكم الأوروبية وسلطة المؤسسات الاتحادية بما فيها البرلمان الأوروبي على أقدم برلمان ديمقراطي في العالم... وهذا ما يفسر في نظري البريكست ومشاكل ما بعد البريكست التي تجسدها العلاقات المتعثرة بين بريطانيا وفرنسا.
ففي رسالة غير مسبوقة لا من حيث طريقة نشرها ولا من حيث محتواها، دعا رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاستعادة جميع المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى إنجلترا والذين يأتون من فرنسا، وذلك غداة مصرع 27 شخصاً غرقاً في بحر المانش.. والرسالة التي أثارت غضب الرئيس الفرنسي ماكرون، نشرها جونسون على تويتر، وهو ما اعتبر أمرا مخالفا للأعراف والتقاليد الدبلوماسية؛ ومما جاء في رسالة جونسون: «وإذ نذكر بأن الاتحاد الأوروبي أبرم اتفاقيات إعادة قبول مع دول مثل بيلاروسيا وروسيا الاتّحادية، فإنني أعرب عن الأمل في إمكانية إبرام مثل هذه الاتفاقية أيضاً مع المملكة المتحدة قريباً......»
ومشكلة الهجرة هاته هي جزء من مشاكل عدة بين بريطانيا وفرنسا إذ يتفاقم اليوم مثلا النزاع بشأن حقوق الصيد ما بعد بريكسيت والذي يكاد أن يتحول إلى حرب تجارية شاملة. وفي هذا الجانب بدأ صيادون فرنسيون بتنفيذ تهديداتهم بإغلاق المحطة في نفق المانش مانعين وصول آليات الشحن، وذلك للمطالبة بتسوية نزاعات صيد السمك مع المملكة المتحدة. وعطل هؤلاء الصيادون حركة العبارات التي تقوم برحلات مع بريطانيا في مرفأ كاليه في شمال فرنسا. وسدت خمس سفن صيد أتت من مرفأ بولونييه-سور-مير مدخل المرفأ.
العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي أضحت معقدة، فالرابح هو من يستطيع فرض شروطه على الآخر بعد طلاق بائن فهم من خلاله الخاص والعام أن العالم الأنغلوساكسوني يتجاوب بصعوبة مع الآخر وبخاصة العالم الفرنكفوني، وهو يضع مصالحه وحساباته كأولوية له سواء راعى مصالح حلفائه أم لم يراعها. ولعل إعلان أستراليا فسخ عقد ضخم أبرمته معها فرنسا في 2016 لشراء غواصات تقليدية، واستبدالها بأخرى أمريكية عاملة بالدفع النووي، مفضلة عقد شراكة إستراتيجية مع الولايات المتحدة وبريطانيا أفضل مثال على ذلك.