إذا بحثنا في معاجم اللُّغة العربيَّة عن الإبداع وأنواعه وخصاله فإن المرء الَّذي يتحلى بهذه الصّفة أو بهذه الميزة فالواجب عليه من خير ذا عفة في خلائقه، واستقامة في طرائفه فقد هذبته الآداب، وأحكمته التّجارب والمعارف والعلوم، فإذا اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهّمات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم، وينطقه العلم، وتكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة، له صولات وجولات مع الأدباء وأناة الحكماء وتواضع العلماء وفهم الفقهاء، وإن أُحسن إليه شكر، وإن ابتلي بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غدة، يسترق قلوب الرِّجال بخلابة لسانه وحسن بيانه.
فإنه يملك ثقافة عامَّة تؤهله للمفاوضة، وتنمي ملكاته، وتعينه على أبجديات الإبداع، ولا يطلب منه أن يكون من أصحاب الاختصاص بل يكون من أصحاب الثّقافة العامَّة حتى يتنسى له دراسة كافَّة المسائل التي تسند إليه حتى يعطيها من جل وقته ما تستحقه، وحتى لا يصدر في أحكامه عن جهل، يؤخذ عليه إهماله أو تكاسله أو تغافله فقد يعرّف الإبداع بالنظر إلى نتائج عملية الإبداع نفسها أي تمييز الإبداع بثماره، فالواجب أن نميز بين نمطين من الإبداع - الإبداع العلمي والإبداع الفني وكذلك الإبداع التعبيري وهو الطراز الأساسي للإبداع والقول الراجح أن مرور المرء بهذا المستوى يعد ضرورياً لكي يستطيع الوصول إلى مستوى أعلى من بعد ويستلزم هذا المستوى - تعبيراً حراً لا أهمِّيَّة فيه لا للمهارة أو الحذاقة ولا للأصالة ولا لصفة النتائج وهذا المعيار يقتضي بدوره أن يكون لدى المرء تعريف رصين صائب الإبداع لكن هذا الوفاء لم يمنع من إيراد الجوانب المضيئة والقاتمة والحديث عن المحاسن والمساوئ، وقد يكون من الوفاء ذكر النقيضين معاً ليكون العمل علمياً، والدراسة فيه موضوعية، والكتابة فيه محل ثقة واعتماد.
فعلى المرء المبدع أن يجمع العلم وبين الفهم وحسن البيان مسبوك بأسلوب يترقرق عذوبة وحلاوة حتى يقول المستمع الكريم: إنه يقرأ قصة ممتعة، فيها فصول مفرحة، وفصول محزنة ومبكية، لكنها جميعاً مربوطة بسلك واحد، يُسْلمُ أولها إلى آخرها - فقد قال يحيى البرمكي: أرى الرجل فأهابَه حتى يتكلم فإذا تكلم كان بين اثنين: إما أن تزيد هيبته أو يضمحلّ. فالخطيب الَّذي يستطيع أن تخضع له سلطة الكلام يكون مستقيماً ويتحلى بالصدق في القول والوفاء بالعهد فإن مجال الخطابة بشكل عام تشبه العصا السحرية في يد رجال العلم والمعرفة. ونحن نرى اليوم من يمتاز بتلك الصفة من رجال عظام تخرج من بين شفتيهم الكلمات الجميلة والمعبرة يغرفون لنا المزيد والمزيد من معينهم الذي لا ينضب، ومن غدائرهم التي لا تجف أبداً لننهل فيها على الدوام الجرعة تلو الجرعة، من عذب المعاني وحلو الكلمات والعبارات الراقية في شتى المجالات إن لكلماتهم المنتقاة رنة نغم وإن لمعانيها العذب وقعاً جذاباً تقع على المهج موقع الندى على العشب اليابس فتخضر يانعة أو كربيع طلق أتى على ورود كانت بالأمس القريب نوفاً فتفتحت حاملة زهراً، إنها لنصيحة موهبة وهي أغلى ما تباع وتوهب. إنها الحقيقية وما أحلاها بحلوها ومرها بفرحها وترحها كلمات براقة وأسلوب منمق لمبدع خصب الخيال وتكون في تلك اللحظة سلاحاً ماضياً مجسد للحقيقة ضارب ناقوس الحيطة والحذر والتأمل ونبراس ينير الدرب لكل واصل وهي دعوة للصحو والاعتدال في أعماق الماضي والتركيز في طيات المستقبل فالجبن يضيع نصف العقل ولكنه مطالب بالأناة حتى يقدر الأمور حق قدرها فلا يغامر ولا يتهور!!
ويحاول أن يتجرد من أعماله وأهوائه وأحقاده حتى لا يخطئ الحكم ويقع في الفخ أو التهلكة ومن أبرز صفات الإبداع عند الرِّجال الأفذاذ أن يحسنوا اختيار المرء المبدع الَّذي يستعينون به في أعمالهم - ولا شك أن البحث عن الحقيقة والقرب منها مجردة، أو البعد عنها منهجياً - هو ما يميز باحثاً من باحث لأن الحقيقة والوصول إليها كانت هاجس الخطباء والعلماء والباحثين والدّعاة والفقهاء ولذلك وضعوا لها أصولاً ونواميس تميز المنهج الَّذي يقود إليها ويتعرف عليها وإذا كانت الحقيقة في بعض العلوم بينه، قريبة المنال، إلاَّ أنها في علوم أخرى خفية صعبة الإدراك.
واستناداً على ما قام به «ابن خلدون» عندما فتش عن أصول الحقيقة التي يسعى إليها في علم التاريخ فوجدها بين الأنقاض، فقد تراكم عليها كثير من غبار الزّمن والحقد الشّخصي، والدافع المادي والمصلحة الخاصَّة، أي باختصار، وجد أن الحقيقة التَّاريخيَّة مظلومة محجوبة، ووجد الساعين إليها عدد كثير ولكن الطريق شاق وشائك فوجد نفسه مسؤول عن تخليص تلك الحقيقة من شوائبها، ورسم الطريق الصّحيح السليم الواضح المؤدي إليها ليرتادها كل مخلص، ويتجنب مخاوفها ومخاطرها كل مريد للحقيقة.
ومن هنا كان عمل «ابن خلدون» شاقاً متعباً، لأنه عمل من يكتشف الطريق ويتحمل مسؤوليَّة مخاطرها، ووعورة مسالكها، بل هي الأنوار التي تظل مسلطة على دروب الحقيقة فالواجب على كل إنسان مِّنَّا أن يحافظ على عقله البشري من الضياع فقد اجاد خطيب الجمعة الماضية فضيلة الشّيخ/ خالد بن صالح العثيم وفقه الله وسدد خطاه بعنوان الخطبة (داء المخدرات) وقد استهل الخطبة مشكوراً بهذه الآية الكريمة والأحاديث النبوية يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابة الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ سورة المائدة آية 91
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (لعن الله الخمر وبائعها ومشتريها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال (كل مُسكر خمر، وكل مسكر حرام) أخرجه مسلم.
كل إنسان مِّنَّا في هذه الحياة ميزه الله سبحانه وتعالى عن باقي مخلوقات الأرض بالعقل الَّذي يعد نعمة من نعم الله الكبرى... التي وهبها الله إلى عباده لقد ابدع الباري جلت قدرته في خلق هذا العقل بنظام دقيق فهو الَّذي يتحكم في كل سلوك وحركات الإنسان وهو الذي يختزن المعلومات... ويخرجها في وقت الحاجة.
ولقد أوصى الله العباد بالمحافظة على نعمة العقل البشري وعدم العبث به.. وتزويده بالمعلومات التي تفيد المرء والبشريَّة كلها فإن المعلومات داخل عقل الإنسان ليست كتلك المعلومات التي يختزنها الحاسب الآلي... إن هذه المعلومات عندما تحتاجها تأتي لك كما اودعتها بسرعة فائقة... ولكن... المعلومات تتفاعل داخل عقل الإنسان في معادلات لا يعرف اسرارها إلا رب العزة والجلال، لتظهر إلى النفس أفكاراً جديدة وآراء واختراعات حديثة واكتشافات نادرة... تخدم البشريَّة على الإطلاق.
من بداية العصر الحجري... إلى غزو الفضاء الخارجي فإن العقل البشري هو الذي قاد المسيرة الإنسانيَّة إلى غزو الفضاء الخارجي واكتشاف أسرار الأرض وغيرها فعندما يسيء المرء لهذا العقل البشري بأمور ضارة ومهلكه كتعاطيه أنواعاً من المخدرات سواء كانت سائلاً أم أقراصاً أو مسحوقاً أو دخاناً فإن مهمتها العبث والضرر بهذا العقل البشري الَّذي وهبنا الله إياه فعندما يفقد المرء هذا العقل البديع وهذه الهبة الإلهية بسبب أهواء شيطانية أو غرائز نفسية بعدها رويداً رويداً يتحول المرء إلى وحش إلى إنسان مختل العقل إلى إنسان منتحر لقد أوجدت هذه المخدرات لأسباب معينة تستخدم في مجال الطب فقط.
وختاماً: أخذ شيخنا الفاضل يناشد اخوانه وزملاءه الَّذين أصيبوا بهذا الداء الخطير أن يحاولوا بقدر الإمكان أن يقلعوا عن هذا الداء الخطير حتى يسلموا من عواقبه الوخيمة.
والله الموفق والمعين...