شرفت هذا المساء بقراءة كتاب لطيف خفيف عنون بعبارات مؤلفه، مغلفة بإهداء وتوقيع عالي القيمة على قلبي، وكنت أتحين الفرصة السانحة للاطلاع على محتوى الكتاب كمن يحتفظ في جيبه بحلوى تهديها إليه ابنة جاره خفية في أعقاب مناسبة سعيدة، فهو في كل لحظة يتلمس جيبه شاعرًا بالحظوة والسعادة، حتى مر هذا اليوم الذي ثقلت أعباء ساعاته لدرجة السهد بعد الانتهاء منها، فتغير الفصول لا بد وأن يترك لمسته الخاصة على الساعة البيولوجية للنوم، كانت لحظة مناسبة لإيقاد شعلة القراءة للرد على جفوة النوم، وكان في أجمل مكان ينتظرني بعنوانه الجاذب «ليالي دخنة».
شعرت كأنما امتدت يد المؤلف لتعبر في دائرة زمنية تستغل وقت الليل المتأخر الذي تفرغ فيه أزقة «دخنة» وشوارعها الضيقة، لتأخذني يده عبر الزمان إلى ذات الليلة ولكن في العقد الذي ينتسب لعام 1380هـ/1960م؛ حيث تكون دخنة حيًّا بارزًا من أحياء الرياض، تلك العاصمة الصاعدة المعجزة..
قلبت صفحات الكتاب كما تتقلب خطوات السائر بصحبة المؤلف المبتسم الشغوف لشرح مسميات الأماكن ومراتع الذكريات، فما بين شارع «محمد بن عبدالوهاب» والمخبز الوحيد في آخره ومرورًا بالنافورة الوحيدة الفريدة وصولاً إلى أحياء مجاورة كالدحو وشارع محمد بن إبراهيم..
شعرت كأنما استندنا بعد ذلك معًا إلى جدار طيني لا يختلف عن البيوت حوله، وجلسنا نستريح ليدور الحديث عن متاعب شخصيته المحبة للاكتشاف وفضوله الطفولي لمتابعة التلفزيون في المقهى وأفلام الكارتون، وكيف يستنهض ذلك العقاب من أسرته لترد بإيداعه في حلقات تحفيظ القرآن سعيًا لاستثمار وقته وإشغال فراغه، ولمعت عينه بينما يفصح عن لقبه الذي أطلقه عليه أقرانه في الفصل الدراسي «الكويتي» لما كان في دفاتره المدرسية من صور الكويت وأميرها حيث جاء بها جده حيث كان ممن يتاجرون بجلب البضائع الفريدة من هناك، فكانت داعية لتميزه عنهم وتصنيفه من قبلهم..
سكت بعدها ليمد ناظريه إلى نهاية الطريق بينما يشير بيده إلى آخره، ويخبر عن الطريق الذي سلكه لأول مرة بسيارة مستأجرة مع أهله متجهين إلى «الزلفي»، التي كانت أول محطات الترحال والسفر في حياته، وهناك حيث شعر أن الكويت فعلاً هي مدينة التمدن والحضارة التي يحضر منها المتأنقون ويبنون بيوتهم من الحجارة لا من الطين، وشعر لكثرة ما يعتمدون في تأثيثها وتبرير جمالها أنها من الكويت أنها مدينة مجاورة قريبة..
انتهت استراحتنا لنكمل السير حتى حي الفوطة، هناك حيث دعي بشمال الرياض، الذي يختلف كثيرًا عن غيره بحداثته وأطباع سكانه، تخيلت واقع المؤلف الذي تغير من مكان يحفل بالريبة من المجهول والتشبث بالمعلوم إلى مكان أكثر انفتاحًا للحياة المدنية، حيث التلفزيون والراديو والوافدون بأسرهم ومحلاتهم التي خلقت مناخ التغيير والتطور بتنوع تخصصاتها.
مررنا بعدها بساحة الصفاة التي ارتبطت بيوم الجمعة الذي يزدحم فيه الناس لمشاهدة تنفيذ الأحكام والحدود، وشعرت بارتباك الشفتين في حديث المؤلف عن شخص يعرفه بتمرده وبغيه، وصدمته حين رآه يمشي دون «كف» في يده، بعدما كان يسمع عن سرقاته وتهوره في سلب بيوت الناس..
داهمنا أذان الفجر، فاستعجلته للرجوع بي إلى واقعي لكنه التفت إلى مسجد قديم طيني، وقال: هذا من كان إمامه الشيخ محمد بن سنان.. كان يتفقد أبناء الحي بعد كل صلاة، ويتأكد من حضورهم جميعًا لصلاة الفجر، ويعد نفسه للمرور على كل من تغيب للاطمئنان عليه أو نصحه..
انتهى الليل بأسراره الخفية، وبرز قرص الشمس لينير عتمة الليل بالأمل، كان الشعاع المضيء حافزًا لحديث المؤلف عن منظر القصور البديعة في حي البديعة بينما ينتظر صديقه الذي يزور والدته..
اطفئت الشوارع أيضًا إنارتها سامحة بذكرى مروره بها نهارًا بدراجته وسط هتاف مشجعيه وطالبي وده حتى يسمح لهم بقيادتها، حكى أيضًا كيف أدارت الدراجة كونها مصدر تميز لتصبح سببًا للأوجاع والألم، وتربعت عبارته في وصف تغير ألوان بيوت الطين بفعل الشروق الذي ينيرها «نهار أزقتنا مختلف، ففيه ضجيج السابلة، الذاهبين إلى الأسواق بحي دخنة، وفيه صخب العائدين عند الغروب».
تناولت قصص المؤلف بشغف كبير، ما بين المطرب الذي غاب، والعائلة الباكستانية، والبيت الذي لا يطاق الجلوس إلا عند بابه الخارجي، وقصة القارورة التي أفسدت السهرة، وأحلت السكرة، كما نقلت أذني بين الأسماء التي استشهد بجمالها، والأغنيات التي كتبت بشجن أثار فضولي للاستماع إليها بينما أردد كلماتها في سطور الكتاب كمن يمسك بورقتها لمن يغنيها..
شغفت بحديث المؤلف أيضًا عن تاريخ الخطاطين، وشغفه لتعلم الخط وموقف تربوي تشجيعي من أحدهم معه، ابتسمت لقصة الهمام الذي غيبه الحمام، وعبست لقصص النساء الطارقين بفزع، وحزنت بينما أتصور ثياب امرأة وهي ممزقة.. سرعان ما واساني تخيل قدوم الفرقة العسكرية، وداوى مسمعي عزفها الحماسي الهمام، ومرت حتى عم الهدوء الكافي لتصفح قصص «المكتبة الخضراء» الشيقة، بصورها الجذابة، والتي لم تبعد كثيرًا عن قصة علاقة المؤلف بجدته ووصفه البديع لمدى رضاه بوصاية جده حين كان يرافقها للسفر عبر الطريق الصحراوي إلى الزلفي، ولمعت عيني إعجابًا بينما أقرأ في سطوره ما في عيون أقرانه من فتيات يحاولن التقرب منه لتميزه بكونه جاء من «الرياض» بحضوره وهندامه وعطره..
ثم عدنا معًا لنرى أسواق (المقيبرة) وقد اختلطت وتزينت بأنواع المعروضات والمنتجات، واتسمت بأسماء روادها من التجار كالشربتلي والمنجم والزهراني الذي تميز بالأسماك والمأكولات البحرية، هناك حيث لم يعد للطيبات موسمها فقط، فقد حلت المجمدات الكبيرة هذا الانتظار لتصبح الأصناف موجودة طوال العام..
ثم استعرض المؤلف أبرز الأسواق في تلك الحقبة متحدثًا عما يميزها كأنما يمشي القارئ بين محلاتها ويبصر معالم المجتمع المدني الذي تشكل وتنوع من خلال تبادل مصالح البشر ومنافعهم مع بعضهم بعضًا، كانت رحلة رفيقها الأنس، ومصيرها أن تنتهي على صفحة ليتها لم تغلف بالبياض، لكنها سنة الجمال في الأحوال..
** **
- عبدالله الصليح