«الجزيرة» - كتب:
أصدر الزميل د. إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، مدير التحرير للشؤون الثقافية، كتابه: «الذاكرة والعقل قراءة في المتغيرات الثقافية»، وذلك في 108 صفحة، من القطع الصغير، وقد تضمن الإصدار مقدمة وفصلين؛ الأول بعنوان: ذاكرة وعقل، والثاني: العقل بين المبنى والمعنى، إلى جانب مقدمة وخاتمة، وإحالات، ويتناول التركي في كتابه الذي صدر هذا العام جوانب من المتغيرات الفكرية والثقافية؛ حيث يقول في مقدمة الكتاب: «مثل فيلم (أركتيكت) أو : «المهندس المعاري» - الذي صادف اهتماماً وقت عرضه عام 2016م - حكاية الحياة حين تتقاطع فيها وجهات النظر المتضادة فيسود رأي وتُداس آراء؛ فالمهندس الذي صمم بيتاً لزوجين متآلفين لم يراع واقعها بل رغباته، واستال طرفا وتجاهل الآخر، ودق بمهارته الإقناعية إسفينا بينها حيث راق للزوجة التصميم أو كذا بدا تحت تأثيره ولم يرق لشريكها، وتداخل في الأمر المقاول والأسرة الأكبر، وكاد الأمر يبلغ حد الانفصال بينها بالرغم من أن الزوجة كانت حاملاً بمولودها الأول، ولا دلالة في تفصيل مجريات الفيلم أكثر، ويكفي مما سلف أن من يفكر عنك قد يقرر بالنيابة عنك؛ فلا تجد نفسك في ملامحه ولا داخل ذهنه ولست جزءًا من نهجه، وتبدأ الإشكالات الصغيرة فتكبر انعكاساتها على المبنى كا المعنى لمن لم يصغ تنميطها ولم يصغ دهشتها.
ليس المهندس المعاري بدعاً في سلوكه؛ فبالرغم من أنه أجير لصاحبي الأرض، أو هكذا يفترض، فقد صار وليها وذا اليد الطولى فوقها، وأدركا متأخرين أنه استغلها فبات التغيير صعباً وناتجه مشوهاً وتضاعفت الخسارة المادية والإرباك المعنوي.
كذا ترتسم الحياة حين يكون دورنا الاستقبال السلبي والإذن المستلب فيتحكم الخارج في مساراتنا ونفتقد الرؤية الواعية والقرار المستقل والمسافة الفاصلة بيننا وبين توغل الآخرين في تحديد اتجاهاتنا دون النظر إلى دوافعهم فمهما خلصت نواياهم فلن «يحك جلدك مثل ظفرك».
تبقى الحكايات الفردية في إطارها المحدود مهما بلغ تأثيرها على رجل اسلب قراره، وامرأة حجمت مكانتها، وشاب أعتم مستقبله، وفتاة تُسيّر، وطفل لا يخيّر، وموظف لا يستشار، وبيروقراطي لا يستشير، لتطل الجماعات المستعبدة في فضائها الممدود عاجزة عن التفكير في معاشها ومعادها، وفيها من تحزب حتى لا يرى غير الحزب، ومن تابع فلم يعنه أن يعر عقله لسواه، ومن مشى خلف القطيع ولو أوردوه الردى، ومن قال: سمعت الناس يقولون فقلت ويفعلون ففعلت ويسيرون فما توقفت.
هل نحكي هنا عن «استقالة العقل» أو إقالته، وهل ندخل في حوار الجابري- طرابيشي حول «نقد العقل العربي»، وهل جاءت الاستقالة داخلية أم أنها إقالة خارجية ؟! وهل البيت في الفيلم بتفسير رأيه هو البناء العربي المتداعي منذ صارت الهوية التابعة إطاراً للتفكير الجمعي العاجز عن استلهام تراثه وتنقيته وتفجير مكامنه وتحريك راكده والبناء على تركيات الفكر السابق واللاحق دون الاستسلام المطلق لمخرجات الفلسفة الأوربية وجذورها اليونانية ومنحها الأرض والقرض كي تخطط وتصمم وتنفذ بمعزل عن منهج فكري مستقل قادر على التوسط بين الانكفاء والارتماء كي لا نبقى ذوي البيت الذي لا نألفه وربا لا نعرفه. ذاك جانب من معادلة عتيدة عنيدة تمثل التقنية ملفاها ومنفاها وثمة حكاية عمرها عقود سبقت روايتها، ومن المهم استعادة الماحة عنها في تقديم قراءة أشمل لمعاني العقل والإرادة والذاكرة والتقنية ضمن
قال لنا الدكتور برنارد دودج، وهو صاحب مشروع ويب كويست المنتشر في مجال التعليم والتدريب - في محاضراته لنا بجامعة «سان دييغو
ستيت «SDSU» بادة 540 ET:
قالته، وهل ندخل في حوار
إن ما يدرسه لنا أول الفصل حول تقنيات التعليم سيكون قديا آخره، صدقناه قليلًا دون أن نفهمه كثيراً؛ فقد كان العالم التقني حينها يتحرك ببطء بالرغم من إعلان اكتشاف أكثر من مئة حقيقة جديدة كل أربع وعشرين ساعة، ولا ننسى أن مسرح هذه الحكاية يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي؛ فلم لم يعد التعقل ذا علاقة بالعقل، وكيف يقود العقل متغيرات مذهلة ثم يدعها لجنون التطبيقات فنمي كا لم نصبح ونصبح غير ما أمسينا ، ويبدو زمننا - کما وصفه «جوشوا كوبر رامو» المسؤول الكبير في مجموعة وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر في عنوان كتابه الصادر عام 2009م: (عصر ما فوق التصور)The Age of Unthinkable.
هو - بحق - فوق التصور، وربا كان لتضامن التقني مع السياسي والاقتصادي والمجتمعي دور في هذه التغيرات المتسارعة، ولو شئنا وضع ملمح لإرهاصات التبدلات الحادة لكان عام 1979م مبتدأه في اصطفاف ثورة خميني وحركة جهيان سياسيا، وما بعد منتصف السبعينيات مؤرخة لظهور آثار الطفرة الاقتصادية الفاصلة بين عصرين مختلفين، وأول الثمانينيات لاستهلال دور الصحوة الدينية والصحوة الأدبية وتسنم الصحويين والصحوتين، كما في نهاية الثمانينيات وعقد التسعينيات الحراك القوي للتقنية المجنونة بما فيها الفضائيات والجوالات والإنترنت وإلهامات الأجهزة الذكية، ومعها قائدة ومقودة حربا الخليج الأوليان وغزو أفغانستان والظاهرة الجهادية والأصوليات الدينية.
لم يكن أكثرنا خصوبة خيال قادرا على التنبؤ بما صار قبل أن يصير، كما أننا لسنا قادرين على توقع ما سيكون قبل أن يكون، وما نظنه مستقراً لا يعدو أن يكون ممراً، وما نحسبه النهاية مجرد سطر في البدايات، والذي تعلمناه أمس صار قديماً اليوم. وفي المقابل، وكما لم يستطع العقل عقلنة منتجاته فإن مخرجات الثقافة لم تتواءم مع مدخلات الزمن التقني «غير المتصور»؛ فتقاصر دور المثقفين وتضاءل دور الكتاب کما زاد عدد الكتاب «الموهوبين والموهومين» وبتنا نستفهم: من يكتب لمن؟ ومن يقرأ لمن؟ وماذا يكتبون وكيف يقرأون؟ وأصابت التفاعلات مشاعرنا وأذهاننا وذوائقنا فهل قفز العالم نحو الأمام وهل يصح أن نرتكس في الوراء؟
نتمنى لو عاد الكبار صغارا فقد كانوا أفضل، ولو تجلى الصغار ليبدوا أجمل، ولنتعلم من دروس الدين والسياسة والاقتصاد والتقنية أن التقوى في الصدور، والتميز في السطور، والغنى في الأعاق، والتقدم في الآفاق، وأن ما يضيع من أوقاتنا في الماحكة والتباكي والتذاكي لن يجعلنا فاعلين بل منفعلين ومتلقين، والمسافة كبيرة بين من يبني ومن يرنو إلى الشمس ومن يغلق نوافذه دونها.
فتح «بيرني دودج» كوة في ذهن ناشي مغترب، وما تزال: رسها ووسا يرى معه أن الغد لن يجيء يسيرا، ولعل مثقفينا المعنيين بالتقنية يستطيعون تجسير المسافة بين التعلم والتألم، أو بين الاصطفاء حد التبني والإلغاء حد التجني».