د.فوزية أبو خالد
1
في ضيافة الغائب الحاضر
أن تكون في حضرة إنسان مضياف بطبعه لا يكف عن الحفاوة بضيوفه من لحظة الاستقبال الأولى على مشارف المكان إلى لحظة الوداع بلوعة متبادلة وامتنان مشترك، مع الإحاطة إبان الضيافة بكل تفاصيل الكرم المعبرة عن روح أريحية مرحبة مهللة حفية بالضيف بكل ضيف في عدل عاطفي مدهش وكأنك الضيف الوحيد المولم له.. فتلك لعمري شيمة الكرم التي كانت تشكل قيمة وجدانية وقيمة أخلاقية وقيمة حياتية في العديد من مجتمعات ومراحل العمران البشري.
2
في سؤال الضيافة
أما أن تكون في ضيافة غائب مضياف فيحتفي بك بنفس روحه الأريحية بنفس الحفاوة والترحاب وكأنه ليس غائبا وكأنك أنت الغائب العائد بالغنايم فتلك فكرة الضيافة في شكلها المطلق باعتبارنا جميعا ضيوفا على الحياة... وهذا هو الشعور الخفي الذي اعتراني مع بضع أسئلة ملحاحة طوال لقاء الحلقة النقدية يوم الاثنين ما قبل الماضي في الثاني والعشرين من شهر نوفمبر التي استضافتها قاعة محمد بن أحمد الشدي بمقر جمعية الثقافة والفنون الرئيس بحي المعذر.
ومع انغماسي لحظتها في غمار أمسيتي الشعرية المضاءة بقراءة نقدية لأستاذ النقد المقارن د. سعد البازعي وبحضور تفاعلي جميل فقد نجحتُ في تأجيل تلك الأسئلة التي أثارها في خلدي الاحتفاء بالشعر والفكر في ضيافة محمد الشدي. وإن كان لا مناص من الاعتراف أنها لم تكن المرة الأولى التي أؤجل بها كلمة واجبة في حق المضيف وربما ذلك فرارا من مواجهة المؤقت الجارح في أسئلة الضيافة على الأرض وربما أيضا تجنبا لاستجراح مواجع الرحيل.
3
في أسئلة مستحقة
فكيف لي أن أكتب عن إنسان عرفته عن بعد منذ نعومة قلمي فكان سمتا حييا مستنيرا سخيا ضيفا ومضيفا..؟
كيف أكتب عن ذي قلم رسمي في إتزان وخُلق كريم في إسراف وطموح صحفي مبكر في زمانه..؟
كيف أكتب عمن عرف معظم الكُتاب والمثقفين السعوديين والعرب في حقبة عمله في مجالي الصحافة والثقافة في حياد من طيشهم الإبداعي وتقديرا لاجتهادتهم وتنوعهم..؟
وكيف أكتب عمن عُرف في وقت الرخاء والشدة فكان نفس النفس السمحة والروح الأريحية في إصرار غير تعصبي على تمثيل روح حريملاء في تمازج ثقافي بين نجد وكل منطقة من مناطق المملكة وأفقها العربي..؟
4
في حضرة الصحافة
لم يكن محمد الشدي ضيفا على الصحافة بل كان صاحب دار حفي بحبها فلم يأت محمد بن أحمد الشدي إلى الصحافة من فراغ فقد كان تلميذا لوالده الشغوف بالكتب والصحف في مجال علوم الأصول والمعرفة الحديثة على شح مصادرها في ذلك الزمن البعيد.. ذلك الوالد الذي حمل لأطفاله من رحلة الحج لمكة المكرمة إلى ديرته بحريملاء أول مذاقات الصحافة متمثلة في حفنة من الصحف لم تكن معهودة في بيئتهم.. لتشكل تلك الشرارة أول منفذ للطفل لدخول عالم الصحافة مع أخيه علي بمجلة حائط منزلية قبل انتقاله لميدان الصحافة الفعلي بالرياض عبر جريدة المدينة والصحف المحدودة الأخرى لتلك المرحلة.
ولم يكن محمد بن أحمد الشدي بعد تمرس، رئيس تحرير مجلة اليمامة وحسب بل كان صديق المحاولات الجادة في تطويرها وصديق المعنيين بتطويرها وتطوير صناعة الصحافة بمجتمعنا ممن تجايلوا معه وتجايل معهم تجايل عمل وليس بالضرورة تجايلاً عمرياً.
فقد جاء مجلة اليمامة بعد أن تولاها وأسهم فيها عدد من قامات القلم المبكرين من مؤسسها الشيخ حمد الجاسر رحمه الله إلى كوكبة من الحفيين بها من كتابها الملتزمين بها أو كتاب شاركوا فيها من صحف المملكة المجايلة لها كصحيفة الجزيرة وقريش والرائد والمالية وجريدة القصيم.. ومن تلك الأسماء التي لا تزال مضيئة في تاريخ صحفنا الاجتماعي والثقافي على نسبية عمق واستمرارية مشاركاتها أ. عبدالكريم الجيهمان، عبدالله بن خميس، عبدالله بن إدريس، سعد البواردي، عبد لله العلي الصانع، عبدالله القباع، فهد العريفي، يوسف الكوليت، إبراهيم العواجي، حمود البدر، ومحمد العمير، عبدالله الماجد، ومن منطقة الحجاز أحمد السباعي، هشام حافظ، عبدالمجيد شبكشي، عبدالله خياط، عبدالله مناع، عبدالله الجفري، عبدالله نور، بجانب أسماء أخرى عديدة وإن فاتني ذكرها مع الأسف نظرًا لحاجة الموضوع لبحث أعمق وتوثيق أدق.
5
دأب التطوير
وفي هذا السياق الصحفي المتضافر وربما المتنافس أيضا عمل محمد الشدي خلال رئاسته لمجلة اليمامة على تقديم عدة مبادرات صحفية تطويرية تحسب له وهي تأسيس ملحق اقتصادي أستكتب فيه أقطاب الاقتصاد وقتها ومنهم محمد أبا الخيل وزير الاقتصاد، وحاول فيه تقديم الاقتصاد كمادة صحفية مهمة في متناول المواطن قبل سنوات طويلة من نشأت جريدة الاقتصادية. أسس أيضا أول ملحق تناط مهامه الصحفية إشرافًا وتحريرًا لبنت من بنات الوطن مع مشاركة واسعة للعدد المحدود وقتها من الكاتبات. وكان الملحق بإشراف الشابة الصغيرة حينها خيرية السقاف وباسم ملحق (هي)، ولم يكن الملحق بمعنى القتو النسائي الذي لا يعنى إلا بشؤون بيتية على الإطلاق، فقد شاركتُ فيه على سبيل المثال شخصيا بكتابة قضايا سياسية عن القضية الفلسطينية وبقضايا وأسئلة أدبية متقدمة وقتها عن مسرح اللا معقول والحركة المسرحية عموما وعن الشعر الحديث الخ. وبهذا المعنى كان ملحق (هي) منطقة في مجلة اليمامة للاحتفاء بالكاتبات وجذب مزيد من مشاركة المرأة بالقلم دون كف يدها عن تناول موضوعات غير نمطية بل مجددة. كان يصدر عن مجلة اليمامة في عهده أيضا ملحق ثقافي مستنير ومتعالق مع تيارات الفكر والثقافة في العالم العربي والعالم ومن مشرفيه الشاعر سعد الحميدين وعلوي الصافي.
وتطول سيرة أ. محمد الشدي الصحفية ومسيرته الثقافية بما فيها تجربته الثقافية في تأسيس جمعية الثقافة والفنون التي لم تسعني المساحة للتوقف عندها.
6
هاجس ومسؤولية توثيق
مسيرتنا الصحفية الثقافية
وهذا ما يجعلني أتمنى على وزارة الإعلام وزارة الثقافة وهيئة الصحفيين بالتعاون مع أخيه أ. علي الشدي وربما بالتعاون أيضا مع أبنائه الأعزاء فيصل وهشام وعبد الإله القيام بتوثيق سيرته بجمع ما نشر منها (وأعتقد أنه كتب بعض منها مسلسلة في صحيفة عكاظ) بالإضافة لمقابلاته الصحفية وشهادات مجايليه عمرًا أو تجربة صحفية وثقافية لنحفظ بحفظ سيرة أعلام الصحافة والفاعلين فيها سيرة التاريخ الاجتماعي والسياسي لمسيرة الصحافة ببلادنا.
***
7
وليس ختامًا
سيظل في عنقي للأستاذ محمد الشدي كلمة مكملة من خلال تجربتي الشخصية في التعامل معه وإن عن بعد وفي موقفه المعزز من تجربتي كشاعرة وكأكاديمية وككاتبة من بداياتي مع وفائه للصداقة البعيدة التي ربطت بين والدي ووالده على أرض حريملاء وتذاكرهما لها بتلك الكلمات الطفولية «يااااالمطوع دي دي هذي حزة الغْديي».
رحم الله أ. محمد الشدي ووالدينا وولده عبدالعزيز وأم عبدالعزيز رفيقة رحلته وجنديتها المجهولة المعلومة.