أ.د.عثمان بن صالح العامر
في يوم حزين خرجت - عصر السبت الماضي - جموع المواطنين لمقبرة الزبارة بحائل، تودع الرجل الإنسان (فهد بن عبد الوهاب الفايز)، الذي كان حتى يوم الجمعة الفائت هو من يسبقهم إلى هناك، فرحم الله (أبا عبد الرحمن) رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، والهم أهله وذويه وجيرانه وأصحابه ومحبيه الصبر والسلوان.
لقد عرف المجتمع الحائلي هذا الرجل الرمز أبناً وفياً، وأخاً سخياً، وأباً عطوفاً رحيماً حفياً، صديقاً للجميع، عنواناً من عناوين المنطقة التي يبحث عنها ويقصدها ويحرص على اللقاء بها الضيف والزائر، صغيراً كان هذا الضيف أو كبيراً، مواطناً أو مسئولا. يشهد له الكل بدماثة خلقه، ورقي قيمه، وحسن سجاياه، وجميل خصاله. كريم المحيا، دائم الابتسامة، وفياً مع الجميع، قريباً للكل، سهلاً هيناً ليناً، سباقاً إلى العطاء، حاضراً في الفرح وحين الحزن والترح، تراه في النهار بالمقبرة مشيعاً ومعزيا، وحين يحل المساء بين القصور مباركا ومشاركاً، يزور المستشفيات يواسي ويدعو. يسافر للرياض إذا ذكر له أن أحداً يرقد على السرير الأبيض هناك، فقط من أجل القيام بحق هذا المريض الذي يتنظر كلمة تفاؤل محب، وزيارة وفي، فكيف إذا كان الزائر: الوجيه، والعنوان، والرمز (فهد بن عبد الوهاب الفايز).
لقد عرّفته كلمات الحق التي لا يخشى فيها لومة لائم، عرفته صدور المجالس، بيوت العزاء، غرف المرضى، ممرات المستشفيات، بطون الجوعى، الشوارع الضيقة والبيوت المنزوية، جيوب ذوي العوز والحاجة، ضيوف الجبلين، المنكوبين والمكروبين إبان غزو العراق للكويت، عرفته قصور الأفراح وليالي الصيف حتى وإن كانت بطاقة دعوة الزواج رسالة جوال أو مكالمة هاتفية أو جاءته من إنسان لا يعرف إلا اسمه، فالعلاقات الاجتماعية - التي طوق نفسه بها ديانة وإنسانية ومحبة ذاتية لمجتمعه الذي يسكن قلبه ووطنه الوفي له - تفرض عليه رحمه الله أن يخضع ظروفه الخاصة لدائرة علاقته الاجتماعية الواسعة، وأن يحرم نفسه وعائلته السفر خلال نهاية كل عام.
عرفته شخصياً منذ نعومة أظفاري جاراً قريباً، ووالداً عزيزاً، وأخاً كبيراً وصديقاً وفياً. عرفته الأرض بسجداته، والسماء بدعائه، والمصاحف بتلاوته، والأولاد الذكور والإناث بتربيته وتوجيهاته، والأخوة والأخوات بالتآلف والتراحم والعطف والحنان، عرفه المجتمع الحائلي بكل ذلك وأكثر، ولذا لا عجب أن تُكتب في يوم موته المقالات، ويرثيه الشعر، وتدبج في ذكر خصاله وسجايه الكتابات والأقوال. ويعزي الكل نفسه به. لقد شعر الحائليون بأن فقد أبي عبد الرحمن ورحيله عن دنيا الناس غصة في الصدر، وألم بين الحنايا، ووجع بالفؤاد، ودمع في المقل، ولكنه قدر الله الذي لا راد له، وساعته التي لا مفر منها، ولا نقول إلا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
أذكر قبل سنوات أنني كتبت مقالاً عنونته (أبر بأم)، ذكرت فيه أن صور البر بالوالدين ليست وقفاً على من سبق، وقصصه ليست حكراً على من مضى، ثم سطرت في ثنايا هذا المقال شيئاً مما عرفته عنه رحمه الله من بره بأمه رحمها الله جراء جيرتنا له منذ سنوات.. نعم لقد وجدت في صنيعه وفعله بأمه حين كبرت، وصارت إلى ضعف بعد قوة، وردت إلى أرذل العمر أنموذجاً فريداً في هذا الزمن يجب أن يحكى ويقال. ومن باب التأدب وعدم اختراق الخصوصية والذاتية اتصلت به رحمه الله بعد أن كتبت ما عرفت قبل أن أرسله للنشر بوقت وجيز، فرفض بشدة نشر ما كتبت معتبراً أن هذا فضل من الله خصه به، وخير ساقه له، وفعل واجب عليه.
لقد ودعنا رحمه الله بصمت، ورحل عنا بهدوء، فاللهم كما كان سهلاً في حياة، سهلاً لحظة وفاته، سهل له في قبره، ونور له لحده، واجعله في أسعد أحواله، وأعنا على ما اعنته عليه وما بعده، وارزق أهله وذويه ومحبيه ومن يعزى فيه الصبر والسلون، اللهم أمين وإنني في هذا المقام وأنا أعزي في أبي عبد الرحمن وأعزى به في ذات الوقت أتمثّل قول الشاعر:
إني معزيكَ لا أنيِّ على ثقة ٍ
مِنَ الخُلودِ، وَلكنْ سُنَّة ُ الدِّينِ
فما المُعَزِّي بباقٍ بعدَ صاحِبِهِ
ولا المُعَزَّى وإنْ عاشَا إلى حَينِ
وإلى لقاء بإذن الله، والسلام.