محمد سليمان العنقري
يقول بنك جي بي مورغان أحد أكبر البنوك العالمية في تقرير صدر مؤخراً يقارن بين أسعار السلع والاصول ان النفط هو ارخص السلع قياساً ببقية السلع والاصول من اسواق اسهم وسندات، وذلك قياساً بالقاعدة النقدية الضخمة بالعالم، ويأتي تقرير البنك الامريكي متزامناً مع قرارات من الادارة الامريكية وبعض كبار الدول المستهلكة حول ضرورة خفض اسعار النفط محاولين ان يوجهوا الانظار الى انها سبب رئيسي للتضخم الذي يجتاح العالم، حيث وصل في اميركا لمستويات مقاربة للتضخم قبل ثلاثين عاماً، لكن في الحقيقة للتضخم اسباب عديدة لا يعد النفط احدها فهو مقارب لاسعار 2018 م وفي حينها لم يشكل اي اثر تضخمي يذكر بينما اسباب التضخم هي بفعل سياسات نقدية ومالية مرنة تحفيزية اقرتها الاقتصادات الكبرى وضخت لاجلها تريليونات من الدولارات بالاسواق، اضافة لانخفاض اسعار الفائدة للتحفيز على الاقتراض وتعزيز الطلب على السلع والخدمات لتنشيط اقتصاداتها بعد نشوب جائحة كورونا، اضافة للعامل الاهم ايضا وهو ازمة سلاسل الامداد ونقص انتاج السلع بسبب الاغلاقات السابقة الاحترازية التي رافقت بداية تفشي فايروس كورونا، مما قلص الانتاج العالمي وانخفض العرض قياساً بالطلب الكبير.
في الواقع ما ذكره بنك جي بي حورغان يجب النظر له باهتمام كبير فهو وان لم يتطرق لمفهوم القيمة العادلة والمناسبة للنفط انما استند على مقارنة سعرية مع الاصول والسلع الاخرى فحجم اكبر عشر بورصات بالعالم يفوق 90 تريليونات دولار تقريباً بينما قيمة اجمالي الاحتياطي النفطي بالعالم بالاسعار الحالية للبرميل يقارب 110 تريليونات دولار، وهو اي النفط من يغذي شرايين الاقتصاد العالمي بالدم اللازم لسريان الحياة فيه فبدونه يتوقف الانتاج الصناعي وقطاع النقل وتشل الحياة ويساهم بتوظيف ملايين العمال عالمياً، فهو يوفر صناعة ضخمة في اجمالي القطاع الصناعي العالمي ويلعب الاستثمار فيه دوراً بنمو الاقتصاد العالمي، حيث تضخ بالمتوسط مئات المليارات سنوياً في هذه الصناعة، وقد شهدت السنوات الاخيرة محاولة لكبح نمو احتياطات النفط عالمياً من الدول الكبرى تماشياً مع خططهم في معالجة قضايا المناخ بفرضهم سياسات ادت لتقليص استثمارات شركاتهم النفطية الكبرى عالمياً، وتراجعت احتياطيات اكبر خمس شركات حوالي 13 مليار برميل نتيجة تراجع استكشافاتهم، مما ادى الى بداية ملامح خلل في تراجع نمو العرض قياساً بالطلب المتنامي، وهو ما تحذر منه بيوت مال واستثمار، وكذلك مراكز لدراسات الطاقة كثيراً وان من شأن ذلك ان يحلق باسعار النفط لمستويات مرتفعة جداً، كما ان القيمة السوقية لاكبر ست شركات امريكية تقارب 11 تريليون دولار، مما يفوق حجم تجارة النفط السنوية البالغة حوالي 3 تريليونات دولار باكثر من ثلاثة اضعاف.
بل من التناقضات الغريبة ان تقوم الادارة الامريكية باصدار الانظمة والاجراءات البيئية لحماية المناخ عبر تقليل انتاج الوقود الاحفوري النفط والغاز والفحم الحجري، بينما تطلب حالياً من دول اوبك+ أن تزيد انتاجها لخفض الاسعار وبذات الوقت تقوم بالافراج عن بعض احتياطياتها بمقدار 50 مليون برميل مما اعطى اشارة قرأها المضاربون باسواق النفط انها تشجع على ارتفاع الاسعار، حيث ستلزم الشركات المقترضة لجزء من هذه الكمية بمقدار 32 مليون برميل بإعادته للمخزون الاستراتيجي عينياً خلال ستة شهور اي ان هذا الافراج مع الخطوات ذاتها من الصين واليابان والهند ستوجد طلباً اضافياً على النفط في الربع الثاني من عام 2022م، مما يعني ارتفاعاً بالاسعار مع الطلب اليومي الاعتيادي الذي يقدر بأن يصل الى 100 مليون برميل يومياً العام القادم، فالنفط عملياً هو أرخص السلع حقيقةً على الرغم من تنوع كبير باستخداماته حيث ظهرت اهميته البالغة حالياً بأنه الملاذ الآمن لمعالجة أزمة الطاقة العالمية بعد ان تقلص الانتاج بالطاقات المتجددة وزاد الطلب على الغاز الذي وصل سعر البرميل المكافئ منه للنفط الى ما يقارب 200 دولار أي أكثر من 150 بالمائة من سعر النفط، مما رفع اسعار النفط مؤخراً، ومع ذلك ظلت بعيدة جداً عن سعر الغاز وعن اسعار مجمل السلع كنسبة وتناسب.
يبدو واضحاً أن محاولة الضغط على اسعار النفط ليست الا لاوراق انتخابية داخلية في اميركا بالمجمل بحسب الكثير من التحليلات التي صدرت بالاعلام الامريكي لكسب الناخبين لصالح الديمقراطيين الذين تراجعت شعبيتهم قياساً بالميل للجمهوريين، وتحاول الادارة الحالية في البيت الابيض ان تعيد ثقة الناخبين بها استعداداً للانتخابات النصفية لمجلس النواب العام القادم وهو ما رجحته تلك التقارير، بينما معالجة التضخم تبدو واضحة في مكان آخر لا علاقة للنفط به فالاسعار يحددها العرض والطلب بنهاية المطاف مهما تداخلت المؤثرات المؤقتة كحالة الفزع التي حدثت الجمعة الماضية وهوت بالاسعار باكثر من 11 بالمائة ودعمها بذلك عطلة الاسواق الامريكية، حيث عملت لنصف فترة بحجم محدود يوم الجمعة مما اوجد عروضاً بلا طلبات تقابلها بالقدر الكافي وسيتضح مدى خطورة المتحور الجديد والقدرة على التعامل معه قريباً، فالعالم لن يعود للمربع الاول بالتعامل مع هذه الجائحة بسبب وجود ممكنات عديدة وخبرات لمواجهتها ولذلك من المرجح ان تعود الاسعار تدريجياً للارتفاع لان معطيات المستقبل تعزز من زيادة الطلب على النفط، بينما تقليص الاستثمارات لزيادة الطاقات الانتاجية على مدى سنوات ماضية بسبب سياسات لكبار المستهلكين تراجعت معها احتياطيات كبرى الشركات النفطية الغربية تحديداً بهدف التحول السريع للطاقات البديلة عن الوقود الاحفوري سيسبب ارتفاعاً كبيراً بالاسعار وفق توقعات لأكبر البنوك العالمية بالسنوات القادمة.