د.سالم الكتبي
دائماً ما توصف منطقة القرن الإفريقي في الأدبيات السياسية في السنوات والعقود الأخيرة بأنها منطقة مضطربة، وبالتالي فإن آخر شيء تحتاجه هو أن لا تصحو شعوبها على أنباء صراع عسكري جديد سواء كانت خلفياته عرقية أو دينية أو سياسية أو لأي سبب أو دافع آخر. ولا شك أن الصراع الدائر في إثيوبيا ينتمي إلى هذه النوعية من الصراعات ذات الأبعاد الممتدة ومتعددة الأوجه والأبعاد: إنسانياً وجغرافياً وجيواستراتيجياً، لذا نجد هذا الملف يحظى بأهمية متزايدة من جانب القوى الكبرى، حيث يقوم وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن بجولة إفريقية تعد مناقشة هذا الصراع أحد أهم محاورها.
صحيح أن القارة الإفريقية في مجملها قد عادت إلى بؤرة اهتمام الإدارة الأمريكية بعد أربع سنوات من تجاهل إدارة الرئيس السابق ترامب، وأن جولة بلينكن هي بمنزلة إعلان رسمي عن عودة الاهتمام الأمريكي بإفريقيا بل اعتبارها إحدى ساحات صراع النفوذ الذي تخوضه واشنطن ضد التمدد الاستراتيجي الصيني عالمياً، والذي تقع إفريقيا في القلب منه. وتحظى الأزمة في إثيوبيا والسودان باهتمام استثنائي واضح من إدارة بايدن، التي تبحث جدياً عن حل إقليمي للأزمتين، بعد أن خرجت الأوضاع في البلدين عن مسارها وتتجهان إلى سيناريو مفتوح على كل الاحتمالات، وتخشى واشنطن أن يتسبب انهيار البلدين في أزمات وربما انهيارات إقليمية أوسع، وهو ما يفسر هذا الاهتمام الأمريكي الكبير الذي لم يظهر في أزمة كبرى مثل أزمة «سد النهضة» التي تمثل هي الأخرى شرارة كان يمكن أن تشعل حريقاً كبيراً في منطقة شمال شرق إفريقيا لولا استراتيجية الصبر الاستراتيجي التي تمارسها مصر، وتراهن من خلالها على التوصل إلى تسوية سياسية عادلة تنهي هذه الأزمة لمصلحة جميع الأطراف.
استقرار إثيوبيا ومنطقة القرن الإفريقي بشكل عام مهم في كل الأحوال للأمن القومي الخليجي والعربي، فهذه المنطقة التي تضم كلاً من إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي وكينيا والصومال لها أهمية كبرى مكتسبة من موقعها الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر والمحيط الهندي؛ ومن ثم تحكمها بشكل رئيسي في الملاحة البحرية التي تمر عبر مضيق باب المندب، ولاسيما تلك المتعلقة بالتجارة النفطية القادمة من الخليج إلى أوروبا، وللمنطقة ارتباط وثيق بما يسمى بـ»قوس الأزمة»، الذي يضم دول القرن الإفريقي وشبه الجزيرة العربية. والحقيقة إن الصراع الدائر في تيجراي تحديداً يستحق هذا الاهتمام لاعتبارات وعوامل عدة أهمها أن دولة إقليمية كبرى مثل إثيوبيا التي كان ينظر إليها حتى وقت قريب باعتبارها واحة استقرار في محيط إقليمي مضطرب تواجه شبح التفكك والانهيار والانزلاق إلى حرب أهلية بكل ما لذلك من تداعيات وتبعات إقليمية خطيرة، فضلاً عن وجود بُعد إنساني لا يقل أهمية حيث يواجه نحو مليون شخص في شمال إثيوبيا ظروف مجاعة محتملة، فضلاً عن نزوح أكثر من مليوني شخص وغياب المساعدات الإنسانية لأسباب سياسية.
إثيوبيا تحديداً تمثل حالة استثنائية للدولة القومية، بالنظر إلى كثافتها السكانية الكبيرة نسبياً (نحو 105 ملايين نسمة) وذات فسيفساء عرقي معقد يجب النظر إليه والتعامل معه بحذر شديد، كونه يمكن أن يتحول إلى سبب لتفككها وانهيارها، والأخطر هو أن يتسبب الصراع العسكري في موجات لجوء إنساني كبرى تضفي على المشهد في القرن الإفريقي تعقيداً يصعب التعامل معه أو معالجته خلال مدى زمني قريب؛ لأن النظر إلى موقع إثيوبيا يعكس حجم هذا التعقيد، فهناك دولتان مجاورتان تعانيان أزمات عميقة (جنوب السودان والصومال)، وهناك السودان الذي يشهد اضطرابات يصعب التنبؤ بمساراتها، وبقية الدول لا تتحمل اقتصاداتها أي موجات لجوء من الجارة الإثيوبية، فضلاً عن احتمالات تورط دول إقليمية أخرى في هذا الصراع بسبب هشاشة الأوضاع والعلاقات البينية في تلك المنطقة.
الإدارة الأمريكية لا تدعم الحكومة الإثيوبية الحالية رغم التعاون القائم بين البلدين، حيث ترى واشنطن أن سياسات حكومة آبي أحمد تسببت في تردي الأوضاع في إقليم تيجراي، وأدت إلى مجاعة جماعية، وأعلن الرئيس بايدن مؤخراً إلغاء التفضيلات التجارية الرئيسية لإثيوبيا بسبب انتهاكات حقوق الإنسان خلال هجماتها العسكرية على إقليم تيغراي، وقال المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان إن «أديس أبابا أبعدت في يوم واحد ما أبعدته حكومة بشار الأسد خلال عشر سنوات». وعلى أرض الواقع فإن الشواهد جميعها تؤكد أن تقدم قوات تيغراي نحو العاصمة أديس أبابا سيكون كارثة بكل المقاييس لأنه لن يكون شبيها بتقدم حركة «طالبان» الأفغانية نحو العاصمة كابول دون إطلاق طلقة رصاص واحدة، كما يقول تيبور ناجي المساعد السابق لوزير الخارجية الأمريكي لشؤون إفريقيا، فهناك مقاومة قوية بعد أن دعا أبي أحمد جميع أفراد العاصمة لحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم، والأخطر من ذلك أن الصراع قد بلغ مرحلة بات من الصعب للغاية فيها التراجع من جانب أي من الطرفين.
مشكلة إثيوبيا هي عرقية بالأساس جراء إحساس بعض الجماعات بالتهميش والإقصاء العرقي من جانب الحكومات المتعاقبة، والمسألة تتعلق تحديداً بكبرى المجموعات العرقية في البلاد وهي الأمهرة (27 %) والأورومو (35 %) والتيغراي (6 %)، والأزمة الراهنة لن تقتصر تأثيراتها الاستراتيجية المحتملة على إثيوبيا فقط، بل سينشأ عنها - على الأرجح - واقع جيو سياسي جديد في القرن الإفريقي، ولكن الأهم الآن هو ترقب مسارات الأزمة وهل ستسفر عن صراع عرقي جديد في إثيوبيا أم ستنتهي بسقوط محتمل لأبي أحمد، وفي كل الأحوال لن تعود إثيوبيا إلى سابق عهدها كما كانت في السنوات القلائل الماضية، حيث يصعب بناء تحالف جديد بين التيغراي والأورومو والأمهرة.