محمد أحمد أبوبكر
يستيقظ من نومه متثاقلًا، وينهض من فراشه، فيفرّش أسنانه، ويصلي الفجر، ويستحم ويتناول طعام إفطاره، ثم يرتدي ملابسه، ويغادر المنزل منطلقا بسيارته إلى مقر عمله، وفي تمام الثامنة يدلف إلى مكتبه، ويبتدئ الروتين ما بين إنجاز المهام العاجلة، وعمل التقارير، وتنظيم الحسابات وبيانات الموظفين، وكشوفات الحسابات، وتجهيز الرواتب، وما بين هذا وذاك، اجتماعات إدارية، ومناقشات جانبية، ويستمر هذا كله حتى تمام الساعة الخامسة، فيتنفس الصعداء، ويغادر مكتبه عائدًا إلى بيته، أو متوجها إلى البقالة لشراء بعض الاحتياجات المنزلية.
يدلف إلى البيت وهو مرهق، فتستقبله أم العيال ويضع جسده على أقرب أريكة، في سبيل أن يسترخي بعض الشيء.
مع حلول الليل، وتناول طعام العشاء، يكون هناك مجال لمداعبة الأطفال والحديث معهم إلى أن يخلدوا إلى النوم، ثم يأتي دور الزوجة والكلام حول الأحوال المادية للبيت، والصعوبات التي تكتنفها، والأمور الأسرية التي لا يخل منها أي بيت، ثم يصرخ الجسد المنهك والمكدود منادياً على صاحبه بالذهاب إلى الفراش، وهناك أفكار وأفكار تجول في الرأس، بانتظار قدوم الراتب، لسداد الالتزامات والأقساط والديون.
ويبزغ فجر يوم جديد، وتستمر هذه الدورة بشتى تفاصيلها، اللهم بعض التغيير الطفيف، ولكن المضمون واحد لا يتغير.
في هذا المثال الافتراضي الذي يمثّل الرحلة اليومية لكل موظف منذ أن يخرج من بيته متوجها إلى عمله وإلى أن يعود إلى بيته، حاولت أن أبيّن أن الأمر برمته لا يعدو كونه سباقاً متعباً ومضنياً إلى ما لا نهاية، وثمرته هو هذا المعاش الشهري الذي يقبضه هذا الموظف وغيره فينفقه هنا وهناك على ما هو ضروري وغير ضروري، فيجد نفسه بلا مال يسد به الحاجة، فيضطر لأن يستدين ويقترض، وتستمر هذه الدورة الشرسة من السباق، إلى أن يحين موعد الراتب التالي، وتستمر الأمور على حالها بلا تخطيط أو انضباط.
الأحذق من بين هؤلاء جميعًا، هو من نظّم أموره ورتّب ميزانيته وفق موارده المالية، وادّخر جزءاً منها لوقت الحاجة، ولكنه أيضًا طرف في هذا السباق، يودُّ الخروج منه يوماً ما.
الدوران والعدو باستمرار في حلقة مفرغة لا يؤدي في النهاية لتحقيق نتائج ملموسة، وهكذا الموظف يمضي زهرة شبابه وبعضًا من كهولته داخل أسوار وظيفته، فإذا انتفت الحاجة إليه تم التخلي عنه، كما هو حال الحصان الهرم الذي يطلق عليه صاحبه رصاصة الرحمة، ويستبدله بحصان آخر أكثر قوة وصحة وعافية وشبابًا، ولا أظن أن أحداً يريد أن يتعرض إلى هذا المصير.
لا أريد أن يُفهم كلامي على أنه دعوة إلى ترك الوظيفة، ولكنه دعوة إلى إعادة النظر والتقييم.
الوظيفة مهمة لتدبير أمور المعيشة اليومية والوفاء بالالتزامات، وهي خير من أن يبقى الواحد منا عاطلا يتكفف ما في أيدي الآخرين.
أود أن أشير إلى حقيقة قاسية بعض الشيء وهي أن علاقة الموظف بجهة عمله علاقة تعاقدية نفعية، يأخذ كل طرف فيها ما له، ويؤدي ما عليه، وليست الشركة جمعية خيرية للمحتاجين والمعوزين، وإنما هي كيان تجاري ربحي خالص، وكل موظف عبارة عن أداة لتحقيق الأهداف المنوطة، وترس لكي تدور العجلة بانتظام، ولا يُعد شريكًا ولا مؤسسًا، ولا منّة له ولا فضل ما دام استلم رواتبه.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، هل استعد الموظف لليوم الذي يتم التخلي فيه عن خدماته بسبب كبر سن أو مرض مزمن، أو يتخلى هو عن عمله بسبب عدم قدرته على المواصلة والإنجاز؟.
الجواب ينبني على السلوك المالي المتبع منذ اليوم الأول.
فإن كانت الثقافة المالية عالية، والانضباط والالتزام الماليان هما سيّدا الموقف بالإضافة إلى بناء احتياطي وفير وضخم من المدخرات طوال سنوات الخدمة، والعمل على تنميتها واستثمارها بحيث تعود على صاحبها بعوائد مجزية، وإنشاء مصادر دخل بديلة ورافده عوضا عن الدخل الأساسي المتمثل في الراتب، والموضوع كله يتلخص فيما قاله «أستاذنا المالي» روبرت كيوساكي: امتلاك الأصول والحذر من الوقوع في الخصوم.
وإن كانت الثقافة المالية غائبة، والتفلت والتسيّب المالي حاضريْن، فأبشر بالمزالق، والمعاطب، والعقبات، وسيأتي وقت التقاعد، فلا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، ولن ينفع حينها عض الأصابع من الندم.
استمسك بوظيفتك، ولكن أطمح إلى حريتك.
جدد من نشاطك، وكن قنّاصاً ماهراً يجيد استغلال الفرص التي تجعله في رخاء ومأمن من العوز والفقر.
الاستثمار ليس حصرًا على المال، وإنما هناك استثمار العقل والمواهب، فاعمل على تطوير نفسك بلا كلل ولا ملل، فقيمتك في سوق العمل هي بما تملكه من مهارات وقدرات كفيلة بصنع الفرق وإحداث التغيير.
أن تعيش حرّا طليقاً بلا قيود خير لك من أن تكون فأرًا أسيرًا يدور ويدور ويدور إلى الأبد.