حين وجّه دَفّة سفينته إلى التخصّص في اللغة العربية أواخر عام 1409هـ، وتأمَّلَ مخطّط دراستها في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود وجد من أوائل مقرّراتها مقرّر «الأدب الجاهليّ»، فوجل لأمرين جَلَلين؛ أوّلهما: معرفته بأنّه أدب العرب الأوّل، وأنّ دراسته ستكون صعبة، وثانيهما: أنه مقرّر يدرّسه آنذاك أستاذان؛ أحدهما الدكتور محمد بن سليمان السديس، وهو قريبه؛ القريب من عمر أبيه، وكان حريصًا غاية الحرص على أنْ ينأى بنفسه عن أيّ ظنّ أو حرج، ويوقن أنّ الأستاذ يودّ ألّا يراه في أحد مقاعد الطلبة عنده؛ تورُّعًا وتحرُّجًا! فلم يكن مخرجٌ إلا أنْ يبدأ دراسته مع الأستاذ الآخر.
لكنه بعد صبر ومجالدة لمدة تقارب الشهر أوائل عام 1410هـ لم يجد ما كان يتطلّع إليه من فائدة ومتعة؛ فآثر الانسحابَ منه، وانتظارَ الفصل التالي ليسجّله من جديد. ويشاء الله أنْ يقابل «الأستاذ القريب» في مدخل عمادة القبول والتسجيل وهو في طريقه لإتمام إجراءات حذف المقرّر، وهو اللقاء الذي يذكره ويذكر تفاصيله؛ إذْ بدأ بسلام وحديث معتاد، لكنّه أخذ منحى مختلفًا حين علم الأستاذ بسبب مجيء التلميذ الشابّ، فتغيّرت ملامح وجهه، وبان عليه الضيق، وحاول ثني التلميذ عن حذف المقرّر، لكنّ محدِّثه كان قد عزم على ما أراد، ووجدها فرصة ليصارحه: «أعلم أنّك لا ترغب بدراستي عندك، وإني كذلك غير راغب للأسباب ذاتها، لكنّ المقرّر إلزاميّ ولن أدرس - ما دمت قادرًا على الاختيار - إلا عند من يغلب على ظني أنْ أفيد منه، وأرجو منك أنْ تعاملني كغيري، وألّا تعطيني درجة لا أستحقها، وأنت في حلٍّ مني وراحة بال»، وافترقا والأستاذ غير راضٍ ولا مرتاح!
بدأ صاحبنا دراسة الأدب الجاهلي مع أستاذه القريب بعد أشهر من ذلك اللقاء، حرص فيه على أنْ يكون كغيره من زملائه، ووجد أستاذه ينظر إليه بالمنظار نفسه، وشيئًا فشيئًا كانت الحواجز التي أقامتها نفساهما تتهاوى، حتى استقام الأمر بعد لأي وصعوبة ومجاهدة، بل إنّ صاحبنا - مع أنه لم يحظ بالتقدير الأعلى - سجّل في الفصل التالي مقرّرًا آخر عند أستاذه هو «دراسة شاعر عربي»، وهو مقرّر اختياريّ لم يكن ملزمًا بدراسته، لكنّ تجربته مع أستاذه قادته إلى اختياره.
لقد وجد الشابّ في أستاذه نبعًا علميًّا وأدبيًّا لا ينضب؛ مكّنه ذلك من التعرّف على مظاهر العصر الجاهليّ، ثم الوقوف على خصائص أدبه، وتذوّق بعض درره، ثمّ الإبحار مع شاعر التشبيه ذي الرُّمّة، وتحليل قصائده. خلال تلك الرحلة الماتعة وقفوا على الأطلال مع الشعراء، وساروا مع الإبل الظاعنة، ورافقوا المحبّين العاشقين، وتأمّلوا حِكم المجرّبين النّاصحين، يبكون مع الباكين، ويفرحون مع المبتهجين، ويفكّرون مع المفكِّرين، ويطالعون اللغة في وكناتها، ويغوصون معها في قيعانها، ويتعمّقون معها في أصولها وجذورها؛ فكانت تجربة الدراسة عنده تجربةً تستحق أنْ تُروى، وصفحةً يصعب أنْ تُطوى!
إذْ كان أستاذًا متشرِّبًا مستوعبًا لموضوعات محاضراته، مستحضرًا لشواهدها وتفاصيلها، محسنًا في شرحها وتقريبها، مع وعورة مسالكها ودقّة مساربها، يقدّمها في طبق شهيّ من العبارات المتينة، والتعبيرات الأدبيّة البليغة، ويحلّيها ويزيّنها بالأمثال السائرة، والأبيات الرائقة، مستظلًّا بظلٍّ تاريخي، يطَّوّف بين القبائل والأحلاف، ويُري رأيَ العين أخلاقَ ذلك الجيل. وكثيرًا ما يملي إملاءً متفرِّدًا بديعًا، يحسبه السامِع تصويرًا، يحاكي صوتُه كلَّ همسة وصرخة، وكلَّ غضب ورضا، وكلّ ضحك وبكاء، لا يمنعه الإملاء من إضافات كثيرة تزيد المعنى ظهورًا، ومحطّات عديدة يجد الرَّكب فيها زادًا وسرورًا؛ وهو يعقّب ويحلِّل، أو يبرهن ويدلّل، أو يسوق طُرَفًا تدفع ضجَرًا، أو ينبّه على أخطاء شائعة، أو يلفت إلى لفتات لغويّة بارعة، ويفرّق بين ألفاظ متقاربة؛ فلا يراه صاحبُنا إلّا كالمُرهَّق الذي يغشاه المُرهَق، وكم قطع به القِرِي، وطاف القُرَى، وأطعمه ألذَّ القِرَى، وجال معه في واحة غنّاء في سنة غيداق!
وعرف الشابّ في أستاذه انضباطًا وحرصًا على محاضراته، حتى إنه في المحاضرتين اللتين لم يحضرهما نبّه طلّابه من قبل، وبيّن لهم وجهَ القصد والعُذر، ثم حدّد لهم موعدًا بديلًا؛ حتى لا ينتقصَ للطلاب حقًّا!
سمع صاحبنا أنّ الأستاذ «شديد»، لكنه أدرك هيبةً له، تُجلّلها غزارة علميّة، ولا تخرمها دعاباتٌ عفويّة. وسمع أنّ الأستاذ «صعب»، لكنه أدرك أنّ الوعورة في الطريق، وأنّ طرق الجبال مليئة بالعوائق، ومن يطلب للقمم طريقًا سهلًا «كمتطلّبٍ في الماء جذوةَ نار»! وسمع أنّ الأستاذ «بخيل» في الدّرجات، لكنه أدرك أنّ القائل كمحتال رفض ذو مال أنْ يعطيه بغير حقٍّ مالًا، وأنّ من كال الدرجات بغير ميزان فقد ظلم المُجِدّ، وخدع الكسول، وزيَّف الحقيقة وموَّهها. ثم هو فوق هذا وذاك قد جرّب وابتلى، وسبَرَ وعَجَم، ثمّ أعاد البصر كرّتين - قبل أنْ يكتب اليوم - لينظر في أوراق صحّحها أستاذه قبل اثنين وثلاثين عامًا؛ فلم يجد ثَمَّ إلا عدلًا وصدقًا، ودقّة ونُصحًا، وتصويبًا لكل خطأ، وتوضيحًا لكلّ خلل، غيرَ مكتفٍ بإشارة أو درجة، ولا ميَّالٍ إلى راحة ودَعَة، محقِّقًا غاية الاختبار في وقوف الطالب على مواطن ضعفه وخطئه.
يتذكّر صاحبُنا اليوم طربه آنذاك وهو يسمع عينيّة سويد بن أبي كاهل من فم أستاذه غضّة طريّة كأنما يسمعها من في الشاعر، فوعاها وحفظها، وكم ترنّم بها وردّدها:
رُبَّ مَن أنضجتُ غيظًا قلبهُ
قد تمنَّى ليَ موتًا لم يُطعْ
ويراني كالشَّجا في حلْقهِ
عَسِرًا مخرجُهُ ما يُنْتَزَعْ
مُزْبِدٌ يَخْطُرُ ما لم يَرَني
فإذا أسْمعتُهُ صوتي انْقَمَعْ
قد كَفاني اللهُ ما في نفسِهِ
ومتى ما يكْفِ شيئًا لا يُضعْ
لا عجب بعد هذا أنّ الأستاذ لم يكن قريب نسب فحسب، بل كان قريب روح ونفس، وقريب محاضرات ودرس. ويُحزن صاحبَنا أنّ اليوم السابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة من عام 1436هـ حمل نبأ نعي أستاذه القريب وهو بعيد، لكنَّ عزاءه أنه كان حينها في تونس ليحضر مؤتمرًا علميًّا، لأستاذه جزء من تكوينه العلميّ الذي أهّله للمشاركة فيه؛ فالبرّ لا يبلى، والفضل لا يُنسى، والخير أنقى وأبقى، وبذرة المعروف لن تفنى!
** **
- أ. د. أحمد بن صالح السديس