صبيٌّ صغير يدلف مع أبيه إلى كتّابٍ متواضع في حارةٍ قديمة، و»المطوّع» الكفيف يلتف بعباءته العتيقة متربعاً فوق ما يشبه الكرسي. يجلس الصبي مع أقرانه على رملةٍ متربة ويتركه أبوه بعدما همس للمطوع ببضع كلمات. يكتشف الصبي أن سقف غرفة الدرس مشتركٌ مع مطبخ البيت الصغير ولا يفصلهما إلا جدارٌ واطئ.
فجأة تبدأ الأدخنة تتسرب من خلف الجدار وتتكاثف، ثم تختلط دموع الصغار بأحرف الألواح الصغيرة بصوت المطوع الذي يحشرج بتلاوة بعض الآيات التي يرددها الصغار معه بحشرجةٍ مشابهة. ينتهي الدرس منتصف النهار فينطلق الصبي مهرولاً لأبيه آلياً على نفسه ألّا يعود مهما كلف الأمر.
في الصباح التالي كان يمسك بيد أبيه الحنون منطلقاً إلى المدرسة الأنموذج.. العزيزية الابتدائية، تأخذه رحابة المكان وتعدد الفصول والمعلمين وكثرة التلاميذ فينغمر بلا شعور في هذا الجو المفعم بالتميز والجاذبية التعليمية، والمحفز على التحصيل والتفوق.
يتوزع وقته وجهده بين المدرسة والعمل بمزرعة أبيه، حيث يُمضي ساعاتٍ عند رأس البئر مقدِماً المكافآت لمعاويد السواني عبر كراتٍ صغيرة من العشب اليابس، وبين دورة وأخرى لهذه المعاويد يسترق النظر لدروسه وإنجاز فروضه المدرسية. تنطبع دراما السواني في ذهنه بقوة وتظل معه طيلة مسيرة حياته، فما أشبه الحياة بها، دورات متتابعة تجلب مصدر الحياة والخصب من الأعماق بمثابرةٍ مديدة، وبدونها لن تكون الحقول خضراء ولا النخيل باسقة ولا الحياة ممكنة.
يقطف الصبي شهادة الابتدائية متفوقاً، وكانت نهاية المطاف، إلا أن حسن طالعة ينبئ بافتتاح المعهد العلمي السعودي في بلدته، وهو الوحيد في البلاد بعد معهدَي مكة والمدينة، فينتظم فيه ويتفوّق إلا أن المعهد يغلق أبوابه نهائياً قبل استكمال مرحلته الدراسية الأخيرة.
لقد استهوته نزعة الوصول إلى آخر المدى فانطلق لأفقٍ آخر وسافر فتيّاً إلى الرياض ولم يجد هناك سوى الوظيفة، فليسعَ إذن لأفقٍ وظيفيٍ آخر، فمضى إلى المنطقة الشرقية حيث عمل في أرامكو لمدة سنة ثم إلى رأس مشعاب محاسباً في الجمرك، وستكون هذه خميرةً لطموحٍ مهني كبير في المستقبل البعيد.
يعود بعد سنتين مرغماً لبلدته، فهو مسؤولٌ عن بعض أهله رغم حداثة سنه، خاليَ الذهن من أي أفقٍ جديد. يستدعيه أستاذه القديم مدير العزيزية ويستوثق من عدم انشغاله فيعرض عليه العمل معلماً في المدرسة لكنه يتعلل بعدم كفاءته للتدريس وهيبة مزاملة أساتذته القدامى، فيحسم أستاذه الأمر قائلاً أنا أعرف كفاءتك وتفوقك وكل المعلمين كانوا تلاميذنا وأصبحوا زملاءنا وسأراك غداً في المدرسة لتستلم جدولك التعليمي. دخل المدرسة متعثراً لكنه سرعان ما أصبح من أفضل المعلمين واصلاً نهاره بليله مستأنفاً تدريسه للمتخلفين خلال العطلة الصيفية، فدراما السواني التي تسكنه لا تتوقف.
يروي أحد تلاميذه في المرحلة الابتدائية أنه كان يدرسهم مادة الرسم، وكان في كل درس يحكي لهم قصة قصيرة تكون موضوع الرسمة، وخلال وقت قصير تنتقل القصة من أسماعهم إلى أناملهم الصغيرة مكبّين على كرّاساتهم، وهكذا في كل حصة، فلم يكتشفوا أنه لم يرسم لهم رسمة واحدة طيلة العام على السبورة إلا في آخر العام الدراسي، فإذا كان لا يجيد الرسم فقد كان يتقن إلهام الفن وصقل الموهبة عند تلاميذه.
يتزوج فتياً ويفتح بيتاً ويرعى أسرةً وأطفالاً وتلاميذ فيجد نفسه يتطلع لأفقٍ جديد يساعد على مواجهة متطلباته المستجدة. يرحل إلى الرياض، حيث المدرسة الثانوية، فيعمل سنة في مركز الخدمة الاجتماعية، وهي خميرة ثمينة أخرى لمشواره الطويل في العمل الاجتماعي، وينال شهادة الثانوية منتسباً ومتفوقاً في آخر العام، حيث يجد اسمه ضمن المرشحين للابتعاث لدراسة الهندسة في ألمانيا. قضى في البعثة سنتين مكثفتين لكنه قطعها لظروفٍ عائلية قاهرة، ثم قنِع بوظيفةٍ في إدارة التعليم الوليدة في بلدته مشاركاً فاعلاً في كل نشاط تعليمي واجتماعي وثقافي، وانتسب لكلية التجارة فحصل على شهادة المحاسبة لينفتح له أفق جديد، حيث يصبح الرجل الثاني في بنك التسليف المفتتح حديثاً في الرياض. وهنا تمتزج النزعة الاجتماعية بالخبرة العملية بالمعرفة المالية ويقضي تسع سنوات يستقطب فيها الكفاءات الوطنية ويفتتح الفروع الإقليمية ويرعى متطلبات الأكثر احتياجاً في المجتمع بتيسير قروض الزواج وتهيئة المسكن أو ترميمه وخلاف ذلك.
بعد أن أمضى نصف عمره المديد في الدراسة المجهدة والعمل الوظيفي المكثف، انصرف إلى طموحين مؤجلين إحداهما افتتاح مكتب محاسبي أصبح من أبرز المكاتب المحاسبية تسبقه سمعة صاحبه الطيبة وأمانته وصدقه وتفانيه، والآخر هو التركيز على العمل الاجتماعي الخيري في مدينته الأثيرة عنيزة، فيما يفيض لديه من وقت وخلال إجازة نهاية الأسبوع. وقد تزامن ذلك مع إنشاء مركز المربي صالح بن صالح الاجتماعي بعنيزة بمبادرة كاملة من باذخ الوفاء والريادة معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم، ثم إنشاء مركز الأميرة نورة بنت عبدالرحمن للأنشطة الاجتماعية النسائية، وكان صاحبنا المشرف والمحرك لهذين المركزين طيلة أربعة عقود.
هذه حكاية «أيقونة» العمل الاجتماعي البارز بعنيزة الأستاذ الفاضل إبراهيم المحمد السبيل، التي يصعب اختصارها مثلما تستعصي الإحاطة بها ورصد كل محطاتها وملامحها الظاهرة، فضلاً عن المواقف الخفية التي هي من خبايا ذوي نزعة الخير والاحتساب.
لقد عمل في هذه الحقول الاجتماعية الخيرية بجهد كتيبةٍ من الرجال لا بجهد رجلٍ فرد، كل ذلك مجاناً دون مقابل، وهو يتنقل مكوكياً بين إقامته ومكتبه في الرياض وحقوله الاجتماعية المزدهرة بعنيزة، ليس ذلك لمجرد فائض نشاطٍ محض، وهو يتقدم بالعمر، وإنما لفائض خيريّة في نفسه، غير آبهٍ بمتاعبها.
كثيراً ما تتقاطع طبيعته الخيرية بين مكتبه المحاسبي ونشاطه الاجتماعي فيخدم مهنياً من لا يستطيعون دفع الجهد المهني لمعالجة خلافات مالية عائلية أو استنقاذ حقوقٍ لمحتاجين، كما يسد نقصاً لتمويل ما لا يتوافر مصدرٌ لتمويله، تعرف ذلك من الممتنين له ولن تعرفه منه مهما ألححت.
بلغ من انغماسه في النشاط الاجتماعي بعنيزة أن تم اختياره عضواً بمجلس منطقة القصيم، لدورتين، وكان دوره فاعلاً وثرياً على مستوى الإقليم. وبجهوده وجهود العاملين معه في مركز المربي ومركز الأميرة نورة تم إقامة الكثير من الفعاليات الثقافية التي استقطبت أعلاماً من كافة المناطق. كما جرى تكريم العديد من رموز العمل الاجتماعي والثقافي داخل عنيزة وخارجها.
وكرديفٍ لدوره العملي الفاعل اجتماعياً فقد كتب الشعر في لوحاتٍ فنية بالفصيح والعامي لمعالجة قضايا أو ظواهر اجتماعية، وهو شغفٌ شعري قديم تمثّل في إصدار ديوانين شعريين، كما أصدر بعض المباحث في موضوعات اجتماعية ومهنية، وصدر عنه سيرة موسعة وكُتيّبٌ عن مسيرته الاجتماعية.
ورغم وجوده في العاصمة منذ عقود فقد كان عضواً في العديد من اللجان الاجتماعية في مسقط رأسه، حتى أن كثيرين يظنونه مقيماً هناك، وكان همزة الوصل بين مؤسسات العمل الاجتماعي والمرجعيات الحكومية في الرياض مذللاً الصعوبات والإشكالات التي تعترض مسيرة تلك المؤسسات. وهذا العمل الحثيث والجهد المتواصل هو ما يبرر غفلته عن الاستمتاع بإجازات العمل المتاحة أسوة بغيره، فقد تذكّر أخيراً أنه لم يأخذ إجازةً واحدة وكان يكتفي بالإذن من مرجعه في حالات الغياب الطارئة، ولا تفسير لذلك إلا أن العمل بشقّيه الرسمي والخيري هما متعته الحقيقية ومستراحه المحبب.
لن تتسع هذه السطور لاستعراض سيرة هذا الرجل الكريم بوقته وجهده واهتمامه، ولا حتى لإيجاز ما قدمه وأنجزه في جميع المهام التي تصدّى لها، ولكنها تحية عرفانٍ وتقدير أجزم أن الكثيرين من بني وطنه يضمرونها له وإن لم يهتفوا بها. ثم هي تحية إجلالٍ لمسيرته الطويلة الثرية والمثرية بعد ابتعاده رسمياً عن المسؤولية في الجمعية الخيرية الصالحية بمَعْلميها مركز المربي ومركز الأميرة نورة. وإذا كان يغادر العمل الخيري لظروفٍ صحيةٍ تمنعه من الجهد الميداني المباشر، فإن الخيرية لا تغادره ولا تنفك هاجسه الدائم حفزاً للآخرين وتأييداً وإلهاماً.
حيّا الله أبا محمد في رتل العاملين المخلصين، وحيّا الله روحه المشعّة نوراً يستهدي به العاملون من بعده، وبورك في عمره المديد عطاءً وإتقاناً وإنجازاً، وستظل سيرته الثرية مصدر إلهام ومهماز إقدام لأجيالٍ متتالية ما بقيت جذوة الخير تتوقد في نفوس الخيّرين.
** **
- عبدالرحمن الصالح