مسعدة اليامي - الجزيرة الثقافية:
الدكتور الأديب محمد ناجي آل سعد، يمتلك مهارة الكتابة الإبداعية المتعددة ,كونهُ يكتب القصة والمقال والرواية والشعر، لذلك ذكر لنا بقوله: أَحبائي كُثر وجميعهم يقدمون لهُ الدعوة, كتب السرد وخاصة الرواية باللغة الفصحى واللغة الإنجليزية، وذلك لهدف قام على تبنيه من وجهة نظره الخاصة التي لا ترى أي غرابة في ذلك.
* الإبداع محطة أو عدة محطات وأنتَ مُتعدد في ذلك، لذلك سؤالنا الأول عن الكتابة القصصية، كون لك مجموعة قصصية بعنوان (النبأ)، صدرت عن نادي نجران الأدبي الثقافي، حدثنا عن هذه المحطة وأين أنت اليوم من كتابة القصة؟
- القصة، والقصة القصيرة، على وجه الخصوص، هي من أحب الأجناس الأدبية إلى قلبي، والدليل على ذلك أن ترتيبها كان الثاني، بعد أدب الرحلات، حيث أصدرت ثلاثة كتب في أدب الرحلات ثم أصدرت مجموعتي القصصية (النبأ)، وهذا الجنس الأدبي فيه عوامل كثيرة تجعله محبباً إلى النفس أولها:
أنّه لا ثرثرة فيه، ويعتمد على فكرة واحدة في القصة الواحدة وربما شخصية واحدة وإن وجِدت بعض الشخصيات الثانوية في العمل القصصي، بالإضافة إلى كونها معشوقة القراء الأولى، كونهم لا يحبذون قراءة الأعمال الطويلة، مثل الرواية وغيرها، وهناك مميزات عديدة تجعل من القصة القصيرة طفلة مدللة عند كاتبها وقرائها.
أنا لا أفضل ما يسميه بعض النقاد الإعلان عن الحل، أو تحلحل عقد القصة وتفكّك حبكها، والتي يعلن عنها الكاتب مؤذنًا بمشارفة القصة على نهايتها، أنا أفضل أن تبقى نهاية القصة مفتوحة، كي أعطي فرصة للقارئ الكريم أن يشاركني في توقع نهاية للقصة وإيجاد حل لحبكتها، ففي هذا فائدتان: الأولى مشاركة القارئ، والثانية إبقاء عنصر الإثارة متوهجاً حتى آخر رمق في القصة.
وأمّا أين أنا من كتابة القصة، فهي مسألة فيها نظر، وينطبق عليها ما ينطبق على من له أحباب كُثُر، وكلهم يقدّمون له دعوةً لاستضافته، فيحتار أيّهم يختار، وأنا كذلك، وأحبابي: القصة والرواية والشعر الفصيح باللغتين العربية والإنجليزية والنصوص النثرية، فأحاول أن أرضيهم جميعًا، بالمرور على كل محبوب وزيارته، وعند اكتمال الدورة أعود لأبدأ من حيث بدأت أول مرة، وهنا يأتي ترتيب القصة ثانيًا، بعد أدب الرحلات، ولأكون صريحاً أكثر، فقد أبطأت في ضيافة الرواية، حيث قد صدر لي ثلاث روايات والرابعة على وشك الصدور بينما لم يصدر لي في القصة إلا مؤلَّف واحد.
* أيهما تفضل أن توظف في القصة الواقع أو التاريخ وما الأسباب؟
- الواقعية تعد من أهم الخصائص الأساسية لأي عمل فني، وفي القصة، بالذات، الأمر ينطبق تماماً، ولا يعني توظيف الواقع عدم مزج بعض اللمسات الخيالية في العمل، بل الأمر يحتاج إلى مزج ذكي، تظهر فيه براعة الكاتب، وأمّا عن التاريخ فالأمر في غاية الأهمية، فما القصة إلا استرجاع لأحداث وقعت في الماضي، نسترجعها عبر كتابة القصة، ونستعين في ذلك بذاكرتنا التاريخية، فمن وجهة نظري، أنّه لا يمكن الفصل بين هذين العنصرين عند كتابة القصة أو أي عمل فني مشابه.
* المحطة الثانية كتابة المقالة متى بدأت ولماذا وجهت بوصلتك لذلك الفن، وما هي أهم المواضيع التي تقوم على طرحها؟
- المقالة بدأت معي منذ 1408 هـ، فور عودتي من البعثة وجدت مجلة تسمى (مجلة نجران)، تصدرها الغرفة التجارية كل شهر، وبعض الأحيان، كل شهرين، فتعاونت معهم، وخصصوا لي زاوية تحت عنوان (بلا حدود)، بالإضافة إلى التغطيات الصحفية التي أقوم بها في كل عدد، ثم بعد ذلك كتبت في صحيفة (رياض ديلي) والتي تصدر باللغة الإنجليزية، كنت أكتب زاوية أسبوعية وأقوم ببعض التحقيقات الصحفية في المنطقة، بعدها تعاونت، ككاتب حر، مع صحيفتَيْ الوطن والحياة لعدد من السنوات، وفي عام 2011 م استكتبني الاستاذ قينان الغامدي معه في صحيفة الشرق في مقالة شبه يومية بعنوان (قلم يهتف)، ثم أصبَحَتْ زاوية أسبوعية حتى عام 2017 ، ثم نقلت الزاوية إلى صحيفة (آراء سعودية) الالكترونية بذات الاسم، حيث كنت من المؤسسين لتلك الصحيفة، التي تعنى بالمقالة فقط.
أمّا لماذا وجهت بوصلتي إلى هذا الجنس الأدبي، فذلك يعود إلى اهتمامي بالجوانب التنموية في البلد، حيث أرى من واجبي أن أسلط الضوء على كثير من البقع المعتمة، ثقافياً وأدبياً وفكرياً وتنموياً، ولذلك تنوعت مقالاتي في معالجتها للقضايا الراهنة، فتراني أكتب في مختلف المواضيع، الثقافية والمجتمعية والاقتصادية والتنموية والسياسية والداخلية والخارجية والإقليمية والدولية، بالإضافة إلى جانب طرح الغرائب في العالم من باب جذب القارئ، الذي أصبحنا نتحايل عليه لكي نجعله يقرأ، فعمدنا إلى تقليل عدد كلمات المقالة إلى أقل من (300) كلمة في بعض الأوقات. وقد جمعت أهم المقالات في كتاب يحمل عنوان (من وحي قلم يهتف)، هذا الكتاب يرصد أحداثاً مهمة من خلال تتبع قضايا محلية وعالمية، وبرز فيه أسلوب المقالة الحديثة الذي يتماهى مع تشويق القارئ ، فجاء فيه تنوع ثري ومجال خصب، يحتوي على العجائب والغرائب حول العالم، وفيه، أيضاً، مادة ثرية للباحثين، وقد تنوعت مواضيعه، كما أنه تضمن تجليات العقل الجمعي وأثره على الفرد، وحالات التمرد عليه كلما حدثت، وقد انتُهجَ في الكتاب استخدام لغة مرنة، تتماشى مع الفترة الحالية، وتستطرب لها الأذن العاشقة للفصحى الأنيقة.
* المحطة الثالثة كتابة الرواية لماذا أبحرت إلى ذلك البحر المتلاطم وما أهم أدواتك التي تغرف منها عندما تستعد لكتابة عمل روائي, وما الهدف من انتهاج الكتابة بالفصحى واللغة الإنجليزية في الرواية؟
- يقول أحدهم: «حياة الناس، في الأصل، مجرد رواية، تم كتابتها من قِبل خالقهم»، لذلك أخذتني بثرثرتها وعناصر التشويق والإثارة فيها، فجذبتني وجعلتني مُتعلقًا بها، فهي تتفوق حتى على القصة التي تُشاركها في نفس المهمة، وهذا سِرّ قوة الرواية وقدرتها على السيطرة، وهو ما جعل هذا الفن أكثر الفنون الأدبية شيوعًا، وذلك لتماشيه مع طبيعة البشر من حيث التعاطي مع الأحداث المحيطة والتي يحولونها، في بعض الأحيان، إلى خيالات، يستمدون منها قوتهم على معالجتها مرة أخرى.
وإجابة سؤالك عن الأدوات، فلا بد لمن يرغب في كتابة الرواية أن يكون بالدرجة الأولى، قارئاً نهماً، كما أن الكتابة الإبداعية تجمع بين التفكير وغربلة أفكار الآخرين، بحثاً عن فكرة ما تفتح أمامه المسار إلى حقيقة ما يتخيلها، وفي هذا الإطار يقول الروائي الأميركي ستيفن كينغ: (إن لم يكن لديك وقت للقراءة، فأنت لا تملك الوقت أو أدوات الكتابة).
وأعتقد أن العمل الروائي الذي يحقق النجاح ما هو إلا نتيجة تراكم التجربة على الصعيد الحياتي والتقني للكاتب، والتمكن من لغة السرد والحوار، وفي المقدمة التخطيط لهيكل الرواية وشخصياتها، ثم يأتي في البداية تحديد المعنى العميق للعمل أي تحديد الهدف الرئيس، ثم عمل هيكل الرواية، أو ما يسمى المخطط السردي للرواية قبل كتابتها، أمر آخر لا تنقصه الأهمية، إلا وهو تحديد واختيار شخصيات الرواية وتوصيفهم ومعرفة خصائصهم، بما فيها حالاتهم النفسية، يلي ذلك مرحلة إجراء العديد من البحوث حول المادة العلمية للرواية، ومحاورها، وأهم ما تدور حوله من أحداث، وجمع المعلومات الزمانية والمكانية، ثم تأتي مرحلة إتباع خطوات الكتابة المعروفة.
وأمّا عن الكتابة بالعربية الفصحى، فهي رغبة شديدة في الرقي بالقارئ إلى التحدث بالفصحى المعتدلة، ليست المتقعرة، ولا العامية، بل تلك الدارجة في الصحافة، ووسائل الإعلام الأخرى، وعن استخدام اللغة الإنجليزية، فكانت، فقط، للظرف المكاني لروايتَيْ (جفرسون) و(قوبالينو)، حيث وقعت جل أحداثهما في الولايات المتحدة، وأمريكا الجنوبية، فكان من الضروري وجود بعض الحوارات باللغة الإنجليزية، وقد حرصتُ إلا تفسد فهم القارئ للنص.
* ما أهم رواياتك في نظر النقاد وما أهم رواية كتبت من وجهت نظرك أنت؟
- من وجهة نظر بعض النقاد، يرون أن رواية قوبالينو هي الأهم، لما يرون فيها - كما يعتقدون - من نضج روائي، ورواية قوبالينو - وهم محقّون في ذلك - حظيت بما لا تحظى به أي من شقيقتيها، فقد بدأت أحداثها بتحطم طائرة البطل، ثم تتوالى الأحداث الدراماتيكية، صعودًا وانخفاضًا، في صراع بين القارئ والأحداث، فلا تدعه يلتقط أنفاسه، بين سطور رواية بطلها في طريقه إلى مكان أرقى، ربما صعود إلى السماء، أو هكذا يُتَخيّل، وكان فيها تلميح بأن القارئ قد يتمكن من معرفة سرّ هجرة البطل، والذي طالما بحث عنه - أعني القارئ - في الروايتين السابقتين (قبالة وجفرسون)، كانت فعلًا الضلع الثالث والأخير، لما أطلق عليه لاحقًا (ثلاثية قبالة)، ولكن من وجهة نظري فإنهن كبناتي الثلاث، لكل واحدة منهن محبة خاصة في قلبي، إلا أنّ الابنة الأولى (العودة إلى قبالة) لها مكانة خاصة في نفسي، حيث أحسها تلامس بعض مشاعري، وتتماها معها، كما أنها تتسم بأسلوب سردي يتميز بخفة الدم والسخرية، يختلط فيه الهزل بالجد واليقينية بالخرافة ورسم ملامح الشخصيات بصورة دافئة، ونهايات ملتوية بارعة، غالباً ما تكون مفتوحة.
والابنة الوسطى (جفرسون ستريت) والتي هي عبارة عن امتداد لرواية (العودة إلى قبالة)، وهي ليست جزءًا ثانياً لها، ولكن البطل فراج هو ذات البطل فيها مع أحداث هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لا شك أنها قد أخذتني معها إلى مرحلة من التطور المشوب بالمغامرة، والتي قد تكون، في أغلبها، غير مدروسة، بل من باب المجازفة، والأهم من ذلك كله، أنها أسست لميلاد رواية (قوبالينو)، معشوقة النقاد، لذلك فإنهن عندي كبناتي، ولهن محبة كما لبناتي، ولا يفرق في محبتهن إلا الغياب.
أود أن أوضح هنا أمرًا، أن رواياتي الثلاث لها هدف أساسي واحد إلا وهو، الوطن أثمن ما في الوجود، وتدور بين فلكَيْ الدراما الاجتماعية والرواية الرومانسية.
* المحطة الرابعة الشعر، كيف تسلقت ذلك السور العظيم وكيف أسست ما تكتب من قصائد؟
- لقد تسلقت ذلك السور مبكرًا، فالشعر هو أول الأجناس الأدبية بزوغًا منذ سن مبكرة، فقد كنت أقرض الشعر وأنا في العاشرة من عمري، وكان خليطاً بين العامية والفصحى، كان والدي - رحمه الله - لا يريدني شاعرًا لأسباب لديه، احتفظَ بها، ولكن ذلك لم يمنع تدفق الشعر، كنت أرتجل عشرات الأبيات في الموقف الواحد دون تكلف، عندما كبرت، أصبح لدي إدراك بضرورة تنمية موهبتي الشعرية، فأخذت اقرأ لكبار الشعراء وأخذ أساتذتي يشجعون تلك الانطلاقة في كل مرحلة من مراحل تعليمي، فقد هضمت بحور الشعر، وتبحّرت في علم العروض، كان أحد أشقائي يجمع شعري العامي حتى دوّن لي ألف بيت، وأراد أن يطبعها في ديوان، ولكنني رفضت ذلك، وبعد مضي الوقت، وبعد أن صدر لي عشرة كتب في أجناس أدبية مختلفة، واثنان في الإعداد، واثنان تحت الطبع، أصدرت ديواني الأول (غيمة بوح) بالفصحى، ذلك الديوان يعالج العديد من القضايا، وفيه الكثير من التأملات الإنسانية، ويجتمع فيه، أيضاً، الفكر مع العاطفة، في لمحات فكرية وعاطفية في ومضات خافتة، كما أنه يزخر بكثير من القيم العربية التي نفخر بأثرها الإنساني المتألق في عالم هو بحاجة ماسة إلى تلك الفضائل والقيم الجليلة التي ينبجس منها الموردُ العَذْبُ للظامئين، وقد أجّلت الآخر إلى أجل غير مسمى، أمّا ديواني الثاني فهو على وشك الصدور، وسيليه، بمشيئة الله، ديوان ثالث ورابع، بعدد أبنائي الأربعة، بالإضافة إلى إصداراتي الأخرى في تخصص (التربية) و(التدريب)، والرواية الرابعة في الطريق - بإذن الله -.
* كيف يؤسس المبدع ذاتهُ الإبداعية سواء كان متعدد المواهب أو صاحب موهبة أحادية؟
- لكي يبدع المرء في أمر عليه أن يعد له عدته، فإذا كان حديثنا عن المبدع في المجال الأدبي فعليه أن يحدد الجنس الذي يميل إليه ويهواه أكثر من غيره، ثم يقوم بالبحث والاطلاع على كل ما من شأنه الاستزادة في ذلك الفرع، ولا شك أن القراءة لها دور كبير في صقل الموهبة وتنميتها، بالإضافة إلى الممارسة، فالهواية التي لا تُمارَس، قد يأتي عليها يوم وتذبل وتموت، كما النبتة التي لا تُرعى ولا تستقى، فمصيرها الهلاك.
* حدثنا عن خلواتك مع خير جليس، وما أهم الكتب التي قرأت وكيف تتعامل مع الوقت في خلوتك أو مع الزائر أو الظرف الذي يأخذك من ذلك التناغم؟
- كلما أجد الفرصة، فلا أجد خيرًا من الكتاب ونيسًا، والفرص قليلة هذه الأيام، بل شحيحة، ولكنني أخلقها (غصبًا عنها) - إن جاز لي التعبير - وما أكثر الأوقات التي يقاطعني فيها الزوار، وما أكثر الظروف التي تقتحم خلواتي، ولكنني أناضل من أجل هوايتي، وأمّا عن أهم الكتب التي قرأتُ، فقد قرأتُ أهم كتب التراث الضخمة - سواءً في تأريخنا العربي والإسلامي أو في الثقافات الأخرى - وذات التأثير الجلي في الثقافات، فقد قرأتُ الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والأمالي لأبي علي القالي، ورسائل إخوان الصفاء، وغيرها من كتب التراث الشهيرة، وكذلك النظرات للمنفلوطي، وروايات نجيب محفوظ الثلاث.
ومن الأدب الغربي قرأت لأبرز الكتاب، ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر، نيتشه، فيكتور هوغو، شيكسبير، ت.اس. اليوت، تشارلز ديكنز، دوستويفسكي وغيرهم.
ومن المعاصرين قرأت للأمير خالد الفيصل وللفيلسوف محمد عابد الجابري، وغازي القصيبي، وعبد الفتاح أبو مدين، وعبد الله الجفري، وأبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، ومحمد حسن علوان، وإبراهيم الوافي، وأسامة المسلم، وخالد اليوسف، وفي الشعر قرأت أغلب دواوين الشعراء القدماء والمجايلين، بدءًا بأصحاب المعلقات، مرورًا بشعراء صدر الإسلام والعصور التي تليه، حتى شعراء العصر الحديث، أمثال جاسم الصحيح، عبد الرحمن العشماوي، ومحمد الثبيتي وغيرهم، وقد تسقط بعض الأسماء سهوًا دون قصد.
وهناك شعور لا استطيع تفسيره، وهو شعوري بارتباط روحي بين أبي الطيب المتنبي وبيني، هذا الشاعر، لا أعلم سِرّ هذا الارتباط، ولكن ما أعرفه أنه يمثل لي الرمز الشعري الذي لا يُجارى، وقد نتشابه في مواقف عديدة وأمور كثيرة، ومواضيع عجيبة، تخرج أحيانًا عن نطاق الشعر وأغراضه.
* هناك شاعر آخر أُعْجَبُ به كثيرًا، إلا وهو امرؤ القيس، ذلك الملك العملاق الذي لم يطل به العمر كثيرًا، وإلّا لرأينا منه العجب، ومن شدة إعجابي به فقد حاولت معارضته في معلقته: قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ
بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
حيث قلتُ في مطلع قصيدتي:
وَهَبَّ هوانا من (رَضِيّةَ) ما قضى
ظلومٌ و»مهما تأمري القلبَ يفعلِ»
* إن الحقيقة هي أفضل شكل أدبي (ماركيز) ما رأيك في ذلك وهل توظف ذلك في أعمالك الأدبية؟
- عندما قال غابرييل غارسيا ماركيز: «إنّ الحقيقة هي أفضل الكتّاب»، فقد أصاب، فيما يخص العمل الصحفي، وأكاد أجزم بأنه توصّل إلى هذا الاقتناع بعد فترة من الزمن، حيث أمضى الرجلُ جزءاً كبيراً من حياته كصحفي، مؤكدًا أن قوة الصحفي تكمن في قدرته على الحديث بصدق في تسجيل الأخبار ونقلها.
أمّا في بقية الأجناس الأدبية الأخرى فلا أظن أن الأمر ينطبق تماماً، كما في الرواية، على سبيل المثال، فالكاتب لا بد له من توظيف الخيال في تجليات كثيرة من جسم الرواية.
ولكنّ ماركيز ظهر لديه ذلك التشابك الوثيق بين الخيال والتغطية الصحفية - وإظهار وجه الحقيقة فيها - على طول مسيرته المهنية، حيث ساهمتْ في ذلك التشابك أمور كثيرةٌ، كالتّراث الشفهي والأساطير والذكريات البارزة وغيرها، فعلى الرغم من دور رواياته في حصوله على شهرة عالمية، إلا أن الصحافة كانت مهمته الأولى، فحق له أن يقول ذلك القول ويعتقده كعقيدة مهنية، لأن الصحافة كان لها فضل كبير عليه، فقد مكّنته من تأمين قوته، فقد كان يتفرّغ لكتابة أعماله الأدبية في الليل، والعمل الصحفي في النهار، حتى بعد النجاح العالمي الذي حققته روايته «مئة عام من العزلة».
نعود للحديث عن اعتقاد ماركيز بأن الحقيقة هي أفضل الكتّاب، وعن توظيفي لها في أعمالي الأدبية، ففي المقالة، كما في الخبر الصحفي، نعم، أحرص على ذلك أمّا في بقية الأجناس الأدبية الأخرى التي مارستُ الكتابة فيها فلا أرى ذلك مناسبًا البتّة، لأسباب يطول شرحها، مثل توظيف الخيال وغيره من الأسباب الأخرى.
* برأيك لماذا يبدع المبدع؟
- لكي يصبح مبدعًا، ويسجل له حضورًا تاريخيًا مجيدًا على مر العصور، فنحن نقرأ، اليوم، لكتاب وأدباء قد حالت بيننا وبينهم مئات السنين، فإبداعهم قد خلّف لهم إرثًا أدبيًا عظيمًا، على الرغم من انقضاء حيواتهم.
* ما رأيك في أن الكاتب ابن بيئتهُ وهل ينطبق ذلك على ما تكتب، وهل ساعدك التعدد في الإبداع في إثبات وجودك في المشهد الثقافي السعودي؟
- نعم، الكاتب ابن بيئته، ولكن اطلاعه الواسع يجعل منه ابنًا لبيئات أخرى، فلو تحدثت عن نفسي هنا، أجد أنني ابن بيئتي في أعمالي القصصية، على سبيل المثال وفي الكثير من مواضيعي الشعرية، ولكنني في أعمالي الروائية استطيع أن أنفي ذلك القول تماماً فقد هاجرت مع رواياتي التي هاجرت بي مع أبطالها إلى الغرب، وخصوصًا الأمريكيتين الشمالية والجنوبية.
أمّا عن تعدد المواهب فإن له مكانة أعلى من تلك التي يملكها صاحب الموهبة الفردية، نعم لديّ هذا التعدد - ولله الحمد والمنة - وقد ساعدني في ممارسة مهاراتي في أغلب أنواع الأجناس الأدبية، من قصةٍ وروايةٍ ومقالةٍ ونصٍ وشعر.
* أنت تسعى للانتشار أو لجودة العمل الذي تقدم ما الفارق في ذلك حتى تعم الفائدة؟
- لقد قضيت عمرًا في الأعمال الأدبية المتنوعة، عن حب وقناعة، لأن الإنسان إذا أحبّ أمرًا أبدع فيه، ولم يخطر ببالي، يومًا، أن أسعى إلى الانتشار، بل أحرص، كل الحرص، على رفع مستوى الجودة فيما أقدم، لأنني أعلم، علم اليقين، أن العمل بعد صدوره، لم يعد لي، بل يصبح مُشاعًا بين ناقدٍ وقارئٍ مُحب وآخر غير ذلك، ولكن، لا شك، أن الإنسان يفضل أن يرى أعماله تنتشر، لكن بجودة عالية، كما ينبغي، وهو الأساس، الذي ينبغي أن يركز عليه قبل أن يحرص على انتشارها، وأمّا العلاقة بينهما فعلاقة عكسية، أحدهما على حساب الآخر.
* ماذا تقرأ هذه الأيام وماذا تكتب وبمَ خرجت من إنتاج أدبي مع أزمة كورونا؟
- قرأتُ كثيرًا، وهذه المرّة بفضل كورونا، فقد ساعدتني على العزلة، ولا أبالغ إن قلت لكم إنني قد قرأتُ أكثر من سبعين كتابًا في مختلف المجالات الأدبية والثقافية، منها على سبيل المثال لا الحصر، الجبل الخامس لباولو كويلو، الإرهابي 20 لعبد الله ثابت، اختبار الندم لخليل صالح، جعفر بن علبة الحارثي، جمع وتحقيق الدكتور عباس الجراخ، هندباء برية لياسوناري كاواباتا، بين أنف وشفتين لعلياء الكاظمي، رؤى في قضايا وهموم العصر لعلي الخبتي، وغيرها.
ثم أعطتني الفرصة العظيمة لكي أشرع في كتابة روايتي الرابعة، والتي قد انتهيت منها جُلّها، ولم يبقَ إلا مراجعة المسودة، ثم الشروع في كتابة النص الروائي بشكل نهائي، وتقديمه للمراجعة والطباعة.
وأما قراءتي لهذا الأسبوع فهي لرواية (لعبة الملاك) للروائي الشهير كارلوس زافون، وهي جزء من سلسلة روائية ترتكز على (مقبرة الكتب المنسية) كـ(ثيمة) أدبية أساسية، ترتبط شخصياتها بعضها ببعض، إلا أن كل رواية مستقلة، كما هي روايات نجيب محفوظ ورواياتي (ثلاثية قبالة)، حيث يمكن قراءتها بغض النظر عن تسلسلها.
وعمّا أكتب هذه الأيام، فأنا أكتب روايتي القادمة، حيث قد قطعت شوطًا كبيرًا في ذلك، ولله الحمد، هذه الرواية سيكون لها صدى ضخم لأسباب عدة منها اختلاف (التكنيك) السردي فيها، بتوظيف (الفلاش باك) ولكن بشكل مغاير، أتوقع صدورها قريباً، بمشيئة الله وتوفيقه، وهذا الخبر لجريدتكم حصريًّا.
* ماذا تقول لنا عن الأدب العربي والغربي وأيهما على المبدع أن يبدأ به مشواره حتى يحقق كينونته الإبداعية؟
- الأدب العربي، على مر العصور، منذ عصر ما قبل الإسلام، أو ما يسميه بعض المؤرخين، العصر الجاهلي، وأنا لا أفضل هذه التسمية خصوصًا في مجال الأدب، وهو عصر موغل في القدم، بعيد العهد في الزمن والامتداد، وهو بحر لا يمكن لأحد أن يخوض غماره من شاطئه إلى شاطئه مهما كانت قدراته، حتى وإن كانت لديه أدواته وآلياته لخوضه، وما يفعله الأدباء هو التقدم نحو أعماقه، كلٌّ على مقدرته، وما زلت - والحديث عن نفسي - على شاطئه الهائج، مصممًا على العبور، بتوفيق الله وعونه، وتأريخ الأدب العربي يشهد له بتفوقه على كثير من نظرائه، كالأدب الغربي والأدب الشرقي، على اختلافاته، في الأمم الأخرى، وإن تأخرت بعض أجناسه إلى ما بعد بروز الأدب الغربي، فهذا نزر يسير، إذا ما نظرنا إلى بعض الأجناس الأخرى، كالشعر على سبيل المثال، وأما الأدب الغربي، فلا شك أن له حظوة لدى الأدباء من متحدثي اللغات الغربية، ومن غيرهم لسبقه في بعض الأجناس الأدبية، ولأدواره التنويرية في مقابل العصور المظلمة التي مرّت بها القارة العجوز.
* أيهما على المبدع أن يبدأ به مشواره، حتى يحقق كينونته الإبداعية؟
- أعتقد أن المقصود هنا المبدع العربي، على حد فهمي، فلا شك أن الخطوة الأولى له، أن يهتم بالأدب الذي ينتمي إليه وله ذات اللغة، يبدأ بقراءته والتمعن في أجناسه ومعرفتها، وتحديد الجنس الذي يميل إليه أكثر، لكي يطور موهبته، ثم لا بأس أن يوسع دائرة اطلاعه إلى الأدب الآخر، الغربي على سبيل المثال، وإن كان هذا المسمى يتساوى مع ما يسمى الأدب العالمي، وإذا أردنا تجزئته سنجد أنواعًا من الأدب تنضوي تحته كالأدب الإنجليزي والفرنسي والألماني واللاتيني في قارة أمريكا اللاتينية وغيرها، إذن توسيع مداركه، وقراءته لكتاب وأدباء عالميين، لا شك، سيثرى محصلته اللغوية، وينمي موهبته الأدبية، في المجال الذي يجيد.
* ختاما نبارك لك تصنيفك كأحد أبرز الأدباء المعاصرين في قاموس الأدب والأدباء، ماذا تريد أن تقول لنا: وللأجيال القادمة في مثل هذه المناسبة؟
- لقد قضيت عمرًا فيما أرى أنه يسهم في رقي ثقافتنا العربية وأدبنا العربي، ولم أفكر يومًا في أي تصنيف، يقينًا مني، أن العمل المتميز هو الذي يقدّم صاحبه للمجتمع الأدبي وللمسؤولين عن الثقافة والأدب، لا شك أنني فخور بهذا، وأشكر القائمين عليه، ولكنني أنظر إليه من جانب آخر على أنه قد حمّلني مسؤولية أكبر في تقديم المزيد من العطاء وفي تقديم الأفضل والأجدر، وهذا ما يحتّم عليّ السعي حثيثًا لمواصلة الليل بالنهار، لبذل المزيد من الجهد، أمّا الأجيال القادمة فأقول لهم: اعملوا وثابروا دون أن تنظروا إلى مكافأة أو رتبة أو مكانة، ولا تستعجلوا النتائج، فأنا أمامكم، مثال حي، فمنذ نعومة أظفاري وأنا أكافح، وأنحت بأظافري في الصخر، ولم يأتِ هذا التصنيف إلا في هذه المرحلة، بعد أن أفنيتُ عمرًا، فقط، قدِّموا العمل الأفضل وستجنون ثماره، ولو بعد حين.