جابر بن محمد مدخلي
إنّ مجيئك للحياة أمر حتمي متى قُدر لك ذلك المجيء، ولزومي متى بلغت شهرك التاسع ، وكان اسمك مقترن بالبقاء على قيد الحياة بعد الولادة ، وصرختك الأولى أتت كأهم الإثباتات على أنك على هذا القيد.
ثم إن هذا المجيء قد يكون عاديًا بلا قيمة، ولا معنى، ولا تحدٍ أو صراع متى ما كنت قادم كالآخرين في مهمة إضافة اسمك إلى سكان العالم، وزيادة مخلوق جديد على هذا الكوكب.
لكن الغير عادي، والمميز أن تجيء إبراهيم حلوش. أن تُبصر كل شيء ثم فجأةً وأثناء مرحلة الإبصار هذه تتنبأ بكثير من النبوءات، واحدة منها أنك سترى بقلبك بعدما تُطهره الحياة، وتبتليه الأقدار.
أن تجيء إبراهيم حلوش فهذا يعني أنك أمام ظاهرة تتنامى وتنهض في داخل كل إنسان عرفها، أو عاشها بين مرحلتين، وضفتين، وتجربتين.
حلوش اليوم هو أكثر إبصار من أي وقتٍ مضى، وهو الأثبت على لينه قبل الإبصار وبعده، هذا البَعد الذي لم يأت إلا كنازلةٍ تحيطنا في كثيرٍ من تفاصيلنا بالعناية بدل أن يكون من نزلت به هو المحتاج إلى عنايتنا ، وليس أصدق على هذا غير ما قاله: آرثر شوبنهاور : «إن الإرادة هي ذلك القوي الأعمى الذي يحمل العقل المبصر الكسيح على كتفيه.» وإلى ما رسم ملامحه الأديب الراحل توفيق الحكيم مختصرًا سيرة عملاقة لفاقد البصر يقول فيها: «كيف أرجع إلى ما كنت قبلاً ؟ نعم عشت من غير حب وعشت سعيداً ولكنها سعادة الأعمى الذي لم ير الجمال ولكنك فتحت عين الأعمى وجعلته يبصر وينبهر ..فهل تحسبه إذا أرجعته إلى ظلامه الأول مستطيعاً أن يجد سعادته الأولى؟.»
وإلى ما يؤكد حلوش عليه دومًا برقيّ تعامله وسمو روحه ، هذه الروح التي وصفها جبران خليل جبران في قوله: «جمال الروح هو الشيء الوحيد الذي يستطيع الأعمى أن يراه.»
واليوم أكتب له وعنه بعيدًا عن كونه رفيق عمر، وصديق قلب، وعظيم شِعر، وشعور؛ وإنما لكونه أنموذجًا يسير بأقدامه الصلبة تجاه الشواهق، ويصلها مجد متبوع بآخر.
اليوم أكتب له بعدما وقفت أمامه وهو لا يراني إلا من خلال ملامحي التي كثيرًا ما يؤكد لي في كل وقفة تجمعنا أنّها لا تزال منسوخة في مخيلته ولن تمحوها الأزمنة ، ولا الذاكرة .. ومرارًا ما كنت أؤكد عليه أنّ ملامحي، وقامتي قد توقفا عن النمو أو التمدد منذ عشرين عامًا، وأظنها ستستمر معي على الصورة التي رأيتها بآخر مرة إلى باقي العُمر وتاليه؛ فقرّ عينًا، وقلبًا.
إبراهيم حلوش الشاعر الذي استوفى من الحياة لوحاتها عند سن الأربعين، وحفظ تكوينًا كاملاً عنها ليستعدّ لها بالقافية، والقصيدة –ولا شك- أنّهما وتدان قادران على تثبيت جميع المراحل، وتخليد أدقها، وأصدقها، وأعذبها، وأهمّها في تفاصيله الشعرية، وسماته الشخصية.
قال عنه الشاعر عبدالرحمن موكلي: «إبراهيم حلوش: ظاهرة متفردة جاءت بعد الأربعين من عمرها وكل المبدعين الذين سبقوه من شعراء وأدباء فقدوا البصر قبل أن يروا ما رآه؛ لأن معظمهم فقدوه في الطفولة ، وهذا يجعلنا أمام شخصية قادرة على الإتيان بما عجز عنه جميع الشعراء والمبدعين الذين سبقوه وعاشوا تجربته، وهو لا شك قادرٌ على فعل ذلك.»
إن الجميل في مسيرة إبراهيم حلوش كشاعر أنّه ومنذ بداياته رسم له خطًا واضحًا، وقوافٍ يغذيّها بشغفه الخاص داخل خيمةٍ شعرية لا يستطيع البقاء تحت قبّتها سواه؛ كونه يعلم الأوزان العروضية التي تسندها دون أن تقع، وتزخرفها باللفظ والمعنى دون أن تفرغ من الزائرين والحياة. لقد أخضع حلوش شعره الجميل خلال عقدين من الزمان إلى مكوّن جمالي لم يتغير تذوقنا له ، وإنما زادت قوّته وعذوبته في السنوات الأخيرة وتحديدًا بعدما انتقلت كلتا عينيه إلى يدي القدر الذي قاده إلى الإبداع ببصره وإبصاره وبصيرته، ويقوده اليوم بذات الأدوات.
حلوش القائل في إحدى نبوءاته الشعرية عن هذه المتغيرات التي وصفها بأنها غدت عرضية ليس إلا:
«بَعِــيْـدًا عَـنِ الأضْــوَاءِ.. يَـنْـحـتُ حُـلْـمَـهُ
ويَـنْـسـجُ فِيْ قَـلْـبِ الـقَـنَـادِيْـلِ وَهْــمَـــهُ
وَحِــيْــدًا ..يَـصُـب الـَّشـمْـسَ فَـوْقَ ظَلامِـهِ
ويَـقْـطِـفُ مِـنْ أفْـقِ الـمـجَـازَاتِ نَـجْـمَــهُ
تَـمُـُّر عَـلـيْـهِ الأرضُ .. ثَـكْـلـى كَـفِــيْـفَــةً
فَــتُـبْـصِر فِيْ أفْـيَـــاءِ عَـيْـنَـيْـهِ ضَـيْـمَــهُ !
عَـلى ظِـلِّـهِ ظَـَّل الـيَـقِــيْـنُ مُـرَفْـرِفـــــا
وفَـوقَ جـحـيـمِ الَّشــِّك أطْـفَــأَ غَـيْـمَــهُ»
إن حلوش اليوم في مسيرته ومنجزاته المتتابعة يذكرني تمامًا بما قاله الشاعر والناقد عبدالعزيز المقالح عن الشاعر المعاصر عبدالله البردوني: «كان كعادته يقظ الحواس، يرى كل شيء من خلالها، ويتمثل الأشكال والمرائي ويتحدث عنها وكأنه يرى بعينين نافذتين إلى أعماق الأشياء»
ولعل ما سيظل يُحسب للشاعر حلو ش رغم ما كان وما سيكون أنّه بلغ من شجاعته، وعزيمته وإرادته في مواجهة المقبل من حياته كما ادعته النوازل، وكما اختارته أقداره المبصرة أن يقول في حوار أجرته معه صحيفة الشرق الأوسط .. لشاعر عربيّ عظيم كبشار بن برد ردًا على قوله:
«عميت جنيناً والذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن للعلم معقلا
وغاض ضياء العين للقلب فاغتدى
بقلب إذا ما ضيع الناس حصلا»
أنّ قول بشار هذا بالنسبة له ولتجربته: «غير صائب ؛ لأن لكل تجربة غناها ووحيها وتفاصيلها الخاصة.. نحن متشابهان لكننا سنظل مختلفين»
وشاعر كهذا ليس علينا أن نقف أمامه غير مكتوفي الأعين مهما أبصرنا، ومبصري الأيدي مهما عنه كتبنا...