د. شاهر النهاري
مما لا شك فيه أن الأمم تختلف في القرب أو البعد عن النقوش والنحت، ومثال على ذلك الوجود العربي البدوي، قبل أن يتسع ويتحور ليكون حضارة إسلامية، والتي أتت بداية بمفهومها الناقض لكل نقش أو رمز، أو تمثال، مع قلة المهتمين والعاملين في تلك الحرفة، في مناطق الحجاز، التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية، وعلى اعتبار أن نوعية حجارة جبال سلسلة السروات صلبة بركانية يصعب نقشها أو تشكيلها، على عكس الجبال الجيرية، الموجودة في شمال الجزيرة العربية، وفي وسطها.
نعم كانت مكة تحتوي على تماثيل وأصنام متعددة، ولكنها في الغالب كانت تأتي مصنعة من بلدان بعيدة.
ومع تعاليم الدين الإسلامي، تم تحييد فن النقوش، حتى ولو كان في الملابس والسجاد، أو الجدران أو في الأواني البسيطة، خوفا من مفهوم الغواية والافتتان وتعظيم الأصنام، والإضرار بمفهوم التوحيد، ولو في خيال من يقنن ويفتي ويمنع.
في منطقة الحجاز لم يكن هنالك مبانٍ هندسية مزخرفة، ولا أي نوع من الفنون والآثار الدالة على وجود المهنة والأدوات والفنيات، مثلما وجد في مناطق العلا بالشمال، كما أنه لم يكن هنالك عملات محلية، فكانت الحجاز تستخدم نفس عملات الدولة السيسانية، وبنفس نقوشها ورموزها، وقيمتها.
ومع انتشار العرب، شمالا للشام، وشرقا للعراق وفارس، وغربا لمصر ودول الشمال الأفريقي، وجد العرب أمامهم الكثير من المباني المنقوشة والمنحوتة، على شكل كنائس ومعابد ومسارح حجرية وأعمدة رومانية كما في بترا وبعلبك، ونصب وقبور وتماثيل إغريقية كما في مصر وشمالي أفريقيا، بالإضافة لرموز الصليب والحمامة، والسمكة، وصورة الراعي الصالح، والمرساة بمفاهيمها المسيحية، والنجمة السداسية، والشمعدان اليهودي (المنورة)، وكف اليد (الهاسا)، ورقم 18 بمفاهيمها اليهودية.
ومع البقاء والتعايش تم تحويل الكثير من المباني الهندسية إلى مساجد، بعد أن طبقت عليها طريقة الكحت أو التشويه والهدم وتعديل بعض الزوايا، وإزالة كل نقش قد يعطي دلالة على وجود ديانة أخرى.
وقد وجد العرب أمامهم في تلك البلدان حرفيين في فنون البناء والهندسة، والزخرفة والنقوش، وكان لا بد مع الوقت من تطويع مهنهم لخدمة الدولة الإسلامية عبر بناء مقار للحكومة وتزيين قصور الخلفاء والولاة، من خلال استخدام منظور متوازن مع مشترطات ومحاذير الديانة الإسلامية، فبنيت البيوت بهندسة موحدة لا نقوش فيها ولا دلالات حياة بشرية، أو أرواح، وتم التركيز على الرسوم الهندسية ذات الحس المادي، والرموز الصلدة، مثل الهلال، والسيف، والهلال والنجمة، والتي أصبحت سمات تميز وتخص المباني الإسلامية.
ومع بدء سك العملات بداية من الشام على أيام الخليفة معاوية بن أبي سفيان، نرى أنه استخدم بعض الرموز السائدة في حينها مثل النجمة والصليب والنار والرموز المأخوذة من النباتات والزهور، ولم يتم تصحيح الأوضاع إلا في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان سنة 74 للهجرة، والذي أزال معظم النقوش، واستعاض عنها بلون الراية الخضراء، واستخدام الخط العربي والعبارات الإسلامية، مثل الله أكبر ولا إله إلا الله، ومحمد رسول الله، وغيرها.
وانتقل كل ذلك مع هيمنة الدولة العباسية في مناطق فارس، ومصر، مع تعميم الراية السوداء، تزيينها الشهادتين، كما تم سك العملات في مختلف الأمصار بأسماء الحكام والولاة، مع إضافة جمل وعبارات إسلامية وقرآنية تم التركيز فيها على جماليات الخط العربي بأنواعه، وبنهج التقليل من أي رموز، أو أشكال أو شخوص.
وانتقل كل ذلك إلى السند والصين، وطال شمال أفريقيا، مع بقاء دولة الأندلس، والتي كانت تعج بحرف الهندسة، والنقوش، والرموز، وكان لا بد من الاستفادة من محترفي تلك المهن، بأن حولت مهنهم إلى نقوش إسلامية مباحة، من خلال تلاصق وتداخل الخطوط والمثلثات، والمربعات، والمعينات، والأشكال الخماسية والسداسية، وأنصاف واكتمال وأجزاء الدوائر، وتداخل النجوم بشتى رؤوسها وزواياها، والإبداع في تكديس الخطوط المتوازية، والمائلة، والزوايا، والزخارف الهندسية المتداخلة، والرسوم النباتية بأوراق الأشجار، والزهور وما عرف بعد ذلك في الدولة العثمانية بـ (الأرابيسك)، وغيرها، ودون وجوه بشرية، أو أشكال حيوانات أو طيور، كما برعوا في نقوش خطوط الحرف العربي بكتابة آيات القرآن الكريم، والأدعية، والأحاديث النبوية، والأدعية، وزخرفة الصور والأطر للآيات والسور، والتي تكتب بالخط الكوفي المتداخل مع أشكال هندسية أنتجت عددا كبيرا من المباني، التي لا تزال حاضرة حتى اليوم، والتي أنشئت على نفس النهج الجديد، غير أن بعض العملات المعدنية خرجت عن المسار، وعادت لها بعض النقوش والوجوه، والرموز المختلفة مثل السيف والخنجر والدروع وغيرها.
وبعد عدة قرون وبانتقال الحضارة الإسلامية إلى أرض الأناضول وإلى السند والهند، وجدنا أن النقوش تعود للوجود بأشكالها المختلفة، متأثرة بالحضارات القديمة، فلم يعد هنالك تحريم مشدد للوجوه والأجسام الحيوانية بشكل لتعود تلك النقوش، ويعاد استخدامها في الأواني، وأنواع السجاد، والملابس، والأثاث المنزلي، إضافة إلى ما كانت تزين به المباني، والقصور.
رحلة بين النقوش، تمت دراستها، وتبيان جمالياتها عالميا، وكم شُغل المستشرقون بها، كونها جزءا من التراث الإنساني، لا يمكن تهميشه، ولا تخطيه، ولا نسيان دوره في تنوع وتحورات الفنون البشرية، التي تأثرت بالإنسان، والزمان، والمكان، والبيئة، والمعتقد، وسائر ما يحرك المخيلة الإنسانية من فنون وجنون.