سهام القحطاني
ستظل اللغة البنية الأساسية للمسألة الفلسفية منذ نظرية «لغوس»أرسطو ونظرية «الانعكاس» عند أفلاطون وحتى اليوم.
فاللغة كينونة سواء بفعل ذاتها كجوهر أو بفعل موضوعية عالمها الخارجي كمحمول لا يمكن إظهار الجوهر إلا به، ورغم أهمية هذه الثنائية -الجوهر و المحمول- عند الفلاسفة ثم المفكرين الفلسفيين إلا أن تراتبية هذه الأهمية وقياساتها ومقاساتها مازالت مصدر جدل.
واللغة خاصية مشتركة بين أنواع الكائنات الحية، وقد فرق ديكارت بين لغة الإنسان ولغة الحيوان، بأن لغة الحيوان تنحصر في التعبير عن الموقف المقترن بلحظة الانفعال أو الاحتياج، أو كما وصفها بعض أخصائيي السلوك الحيواني بأن طريقة التعبير تلك تميل إلى السلوك الرمزي أكثر من كون ذلك التعبير «كلام»، لكن خارج هذه اللحظات ينعدم الإحساس باللغة عند الحيوان كإعادة تمثيل للحظة الانفعال خارج وجودها.
أما الإنسان فهو يملك القدرة على التعبير المقترن للحظة الانفعالية والاحتياج، كما يملك القدرة على تمثيل التعبير لتلك اللحظات رغم غيابها واستحضارها في إطارها الانفعالي المطابق للإطار الحقيقي وهذا ما يسميه ديكارت «بالإبداع»؛ اختلاق لحظة الانفعال من العدم.
أبسط وأقدم تعريف للغة بأنها «أداة اتصال» تُشكل «العلاقات الإنسانية» من خلال الآلاف من الكلمات التي تبني أنساقاً وأنماطاً من الرسائل تُحقق الفهم والمشاركة بين الأفكار التي يتداولها البشر.
في حين هناك من يرى أن اللغة تتجاوز كونها «أداة تواصل» إلى كونها مرادفاً «لذات الإنسان» جزءاً من ماهية الإنسان، باعتبار أن الإنسان هو «مصدر اللغة ومرجعها والذاكرة التوثيقية لها».
وهذه القيمة للغة باعتبارها ذات ثانية للإنسان أدخلت اللغة في حرب باردة بينها وبين مسار الفكر الخالص.
وأصبحت العلاقة التراتبية بين اللغة والأفكار مصدر نقاش بين المفكرين الفلسفيين؛ فهناك الرأي التقليدي القائم على أن «الأفكار ما هي سوى اللغة»، باعتبار أن العالم لا يُمكن تشكيل ماهيته الموضوعية بما فيها «الحقيقة» إلا من خلال اللغة، فالحقيقي لا يُمكن إثباته عقلانياً إلا من خلال الكلام؛ كما ذهب أفلاطون.
في حين يرى البعض أن «الأفكار» «أعلى» من «اللغة» كونها جوهر وتتصف بالاستدامة، وبالتالي فاللغة بالنسبة للأفكار هي مستوى أدنى وليس بالضرورة حصولها على صفة الديمومة.
فتفوق الفكر هو الأولى باعتبار أن وضوحه هو الشرط الأوحد لإنتاج خطاب واضح وشفاف، كما ذهب ديكارت، وينضم هوسرل من خلال نظرية القصدية إلى رأي ديكارت لكنه يستبدل «الفكر» «بالشعور» فإذ انعدم الشعور صمتت اللغة.
وبقول أولية وأولوية الفكر أو الشعور على اللغة فهذا يعني أن الأصل في الفعل اللغوي هو الذات-الفكر والشعور- مقابل موضوعية العالم الخارجي، هذه الثنائية التي وضعها هوسرل في مبحث القصدية.
لكنها ثنائية قد تقودنا حيناً إلى التضليل؛ لأن ليست كل ذات هي ذات عارفة وهو ما يعني أن ضمان عدم التضليل هي الذات العارفة «وهذه الذات العارفة لا تكون ترنسندنتالية؛ إلا بقدر ما تتجاوز حقل الأنا لتتقوّم كنحن؛ أي كذاتية متبادلة يكون فيها حضور الآخر شرطاً ضرورياً لفهم موضوعية العالم»-نبيهة قارة، كتاب مدخل إلى فلسفة اللغة، ص14-.
واستيعاب الذاتية اللغوية للاندماج مع موضوعية العالم عبر الآخر كوسيط بينها وبين ذلك العالم وضع على طاولة المسألة الفلسفية موضوع «الواقع» وعلاقته باللغة سواء أكانت مصدر إنتاج أو مصدر انعكاس.
فهل الواقع هو الذي يؤسس فعلنا اللغوي أو أن فعلنا اللغوي هو انعكاس للواقع؟
وانقسمت الآراء في الفلسفة القديمة حول إجابة هذا السؤال إلى قسمين: قسم يرى أن اللغة هي مُؤسِسة الواقع باعتبار أن الواقع هو «صور معادلة» من إنتاج الفعل اللغوي، ويرى الآخر بأن الواقع هو مصدر إنتاج الفعل اللغوي، وبذلك فالفعل اللغوي هو انعكاس «معرفي للواقع» وهذه النظرية بدأت مع أفلاطون، عندما عرّف الحقيقة بأنها «خطاب تتعلق بشيء ما، ومن المستحيل أن لا يقع على شيء ما»، والقضية الخاطئة تعبر عن «شيء موجود ولكن على نحو مغاير»..
إذن الواقع عند أفلاطون هو مقياس للحكم على الحقيقة والخطأ.
أما الفلسفة الحديثة فأبرز نظريتين في هذا المجال نظرية المرجع ونظرية العلامات والمنهج البنيوي للمفكر «دي سوسير» وتذهب نظرية العلامات إلى أن اللغة هي عالم متكامل في ذاتها من خلال قيمة التباينية للعلامة داخل المنظومة، فالاهتمام هنا على القيمة أكثر من المعنى وبذلك فالعلامة اعتباطية متمردة على التعارض بين الطبيعة والمواضعة، وباللغة كنشاط أكثر من مصدرها؛ فالعلاقات هنا هي داخلية من خلال الدلالات والأنساق فيما بينها وبذلك فالذاكرة الأولية لتلك العلامات فارغة تُعبأ من خلال التأويلات اللاحقة للقارئ.
ونظرية العلامات تفصل اللغة كعالم قائم بذاته عن كل ما هو خارج تلك المنظومة، وهذا التوجه حوّل اللغة إلى لعبة نمارس من خلالها «التضليل» ولذلك قد لا نسلم من الوقوع في الوهم بسبب صخب تلك العلامات التي كما يقول «فيتجنشتاين» تجبرنا على صناعة الألغاز والتوهم بقيمتها مع أنها قد لا تحتوي على حقيقة أو مضمون.
وبذلك فإن «فيتجنشتاين» يعارض نظرية العلامات في كون اللغة هي عالم قائم بذاته ويؤسس لنظرية «المرجع» مقابل لها تقوم على أن اللغة مجرد «وسيط» في التعبير عن الواقع، وقول ما هو موجود وينقل القيمة من اللغة إلى «الخطاب» كونه الجامع بين الطرفين اللغة والواقع، والمُعبر عن «الاختلاف والمراجع والتحاور».
وفكرة الاكتفاء بالخطاب في صراع اللغة والواقع أكدت أن اللغة والواقع ينتجان بعضهما البعض ويؤثران في بعضهما البعض، فأخرجت الطرفين من حلبة التنافس على خط التراتبية ومسطرة قياس الأسبقية، لكنها لم تنهِ الحرب الباردة بينهما؛ وهذا ما جعل اللغة من أكثر موضوعات المسألة الفلسفية حضوراً صاخباً في كواليس ومتون كل النظريات الفلسفية.