د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ذكرت في المقالة السابقة أن اللغويين يرون صلة وطيدة بين اللغة والطبقة الاجتماعية، وقلت: إن نقل كلام طبقة إلى طبقة أخرى يؤدي إلى ما سميته بـ»فوضى الوعي»، ويؤكد هذا المفهوم ما يسمى في النقد بالمدرسة الكلاسيكية، وهي المدرسة الأدبية ذات الصفات المحددة، ويهمني هنا مفهومها كما يدل عليه اسمها، فالكلاسية -كما يقول مؤرخو النقد- مأخوذة من كلمة (Class) وهي التي تعني (طبقة)، وتعني فصلاً دراسياً، ويربط الدارسون بين المعنيين، في أن الأدب الذي يناسب طبقة معينة من المجتمع هو الذي يكون موضوعاً في الفصل الدراسي، وهذا ما سيؤدي إلى أن المتعلمين سيشكلون طبقة واحدة، ولأن الطبقة التي جعلت معياراً في تحديد موضوعات الفصل الدراسي هي الطبقة الأرستقراطية في تلك الحقبة، فإن المستوى العلمي هو ما ينتج تلك الطبقة بمفاهيمها، وذوقها. الأمر الذي يعني أن الأفراد المنحدرين من الطبقات المختلفة يندمجون في الطبقة الأرستقراطية لتكون مقوماتهم الشخصية موافقة لذوقها.
وهذا ما يمنع ما سميناه بـ»فوضى الوعي» بناء على قيام التعليم بتحديد المعايير الطبقية الصالحة لأن تكون مقياساً للوعي، والعقل فلا ينداح أحدها على الآخر، وإن كان يدل على أن إحدى الطبقات هي المسيطرة بعقلها ووعيها على الطبقات الأخرى حتى ولو كان الذين يتولون العملية التعليمية في الفصل من الطبقات الأخرى، فهم يستعملون أدب الطبقة الأرستقراطية في التدريس وفي التواصل وفي إثبات الذات.
بيد أن استبداد الطبقة الأرستقراطية لم يلبث أن أدى إلى رفض من قبل الطبقة الأخرى التي تمارس التدريس والكتابة، وهي الطبقة الوسطى أو ما يسمونها بـ»البرجوازية»، ما جعلها ترفض هذه المعايير المحددة في الذوق والثقافة والتعليم والكتابة، وتؤسس معاييرها الخاصة. هذه الثورة على معايير المدرسة الكلاسيكية أحدثت ما يمكن أن يسمى بفوضى الوعي من وجهة نظرها، وتسمى في النقد بـ(المدرسة الرومانسية)، فالرومانسية في الحقيقة تمثل الثورة والتمرد على جميع قواعد المدرسة الكلاسيكية، ورفضاً لها ومحاولة إيجاد قواعد ومعايير للذوق تتفق مع معاييرها هي.
ولو قرأنا نصاً أدبياً من نصوص المدرسة الرومانسية بمقياس النقد الكلاسيكي، فسنجده نصاً هزيلاً لاختلافه الشديد عما تعودنا عليه من قبل، ومن خلال هذه النصوص والقواعد الأدبية التي سارت عليها بإرساء مفاهيم فنية جديدة، استطاعت إزاحة الوعي الطبقي الكلاسيكي وفرض نوع من الوعي الجديد تسمى بالرومانسية.
ولو رجعنا إلى مفهوم الرومانسية لوجدناها في الأساس تعود إلى اللهجات المحلية المتفرعة من اللاتينية والتي أصبحت لغات مستقلة، وصاحب نشأتها نشأة ما يسمى بالشعور القومي، بمعنى ارتبطت نشأتها بالشعور القومي لدى أفراد البلدان المتحدثة بها، وأصبح الحديث بها يعني تعزيز هذا الاتجاه القومي، وتأكيداً له. وهنا ندرك أن هذا الوعي الجديد إنما منح الاعتبار بتضافر جهود اجتماعية وأدبية ونقدية كبيرة، أخرجت هذا الاختلاف في الأدب وطرائق التعبير من أن يكون خاص بطبقة اجتماعية معينة يؤدي إلى «فوضى الوعي» لدى أخرى، إلى الأدب الرسمي الذي يلقى قبولاً من الأدب بوصفه مؤسسة ذات مواصفات جمالية وفنية تتوارثها الأجيال، وتلقى قبولاً في المدارس.
هذه المرحلة التي يحظى بها الكلام بالمقبولية من الطبقات المختلفة تمر بعدد كبير من الجهود، والأعمال، وهذا بدوره يؤكد ما قلناه سلفاً عن أن انتقال كلام من طبقة إلى أخرى يؤدي إلى نوع من فوضى الوعي لأنه يحتاج إلى هذه المراحل، وهذه الجهود، مما لا يتوافر لكل كلام.
وينطبق هذا القول على الحداثة في بداية ظهورها، وما قابلته من رد فعل عنيف، أو نعوت بوصفها تدعو إلى الفوضى، وتحطيم القديم، والهزء بالقيم الفنية المعروفة سابقاً، وذلك بسبب عدم فهم القطاع العريض من المتلقين للقواعد النظرية التي تقوم عليها.
وهو فهم ليس بالضرورة موجوداً لدى المنتمين إليها في بداية نشأتها، ولكنه الشعور الواحد الذي التقى عليه هذا الفئام من الناس، ووحد بينهم وجعلهم ينتمون إلى حركة إبداعية واحدة، وقد لا يكونون متفقين في طبيعة المنتج الذي ينتجونه، والموقف الذي يقفونه من هذا المنتج، بيد أن رغبتهم في الجديد، وسأمهم مما تعارفوا عليه من أدوات التعبير، وشعورهم بعدم قدرتها على الإفصاح عما في نفوسهم، أو عكس رؤيتهم جعلهم يلتقون على البحث عن أدوات تعبيرية جديدة تعكس ما يجدونه من رؤى ومشاعر.
هذه الحركة المتتابعة التي أنتجت أعمالاً فنية متراكمة نشأ عنها حركة نقدية بينت الأسس الفنية التي قامت عليها تلك النصوص، والجماليات التي تنطوي عليها، واجترحت مفاهيم تؤطر تلك الجماليات والأسس، ما جعلها مدرسة أدبية ذات قيمة في الفكر والأدب بعد أن كانت نوعاً من الفوضى في وعي المتلقي.