عبد العزيز الصقعبي
إلى:..
لا مجال لأن أمدحكِ حين أقول أنتِ الآن تشعين بياضاً، مؤلم لي هذا البياض، هذا الخواء، هذا الصمت، بعد الصخب الهادئ والمشاعر المختلطة، كان الحزن والخوف يحتلان مساحة كبيرة من تلك المشاعر، وشيء ضئيل من الفرح والأمل، أعود إليك الآن بعد أن أصبحتُ غريبا عنك، أعود إليك منكسراً، فاقداً أشياء لا تقدر بثمن، لأبحث عن شيء تعيس، فعلا تعيس، بضعة أوراق سبق أن كتبتها، منذ أيام، أوراق بها نصوص غير مكتملة، ربما لم تحتفظي بها، ربما وضعت في حاوية نفايات، من المفترض ألا أفكر بهذه الأوراق بعد الفقد الذي عشته، ولكن لا شعورياً وجدت نفسي هنا، أمامك، كل من في المكان يعرفون أنني كنت دائماً موجودا هنا، يعرفون علاقتي بك، علاقة بدأت منذ أيام وانتهت منذ ساعات.
أنتِ مجرد مكان، تستقبلين أناساً، ويغادرونك بعد زمن، يتوجه بعضهم إلى أماكن أخرى بها حياة مختلفة فوق الأرض، وآخرون يستقبلهم تراب الأرض، قد أقول مجرد مكان، ولكن أنتِ مختلفة عن كل الأمكنة، أنت تشكلين كل من يطأ أرضك، وفق مشهد معين ومحدد، هنالك من يرقد على سرير، وهو الأساس، وآخرون يتحركون، قياماً وقعوداً.
هذا السرير الذي أراه أمامي الآن، وقد تم تجديده وتغيير الملاءات والشراشف بأخرى، بعد مغادرة جسد ليستقبل جسداً آخر، أنا كنت انتمي للجسد السابق، وعلاقتي بك انتهت منذ ساعات، كانت نهاية مؤلمة، لم أرغبها، جئت هنا فعلا لأبحث عن أوراق تركتها، كان من المفترض أن أسأل أحد المشرفين على الجناح، ربما وُضِعَت مع بقايا الورود، وعلب الكاكاو، وأشياء أخرى تتعلق بكل من كان قدره أن يرتبط بعلاقة مؤقتة بذلك المكان، ولكن حجة الأوراق هذه رغبة مني لأرى شكل المكان بعد أن غادرناه، نحن لسنا أهلك، وأنتِ لست ملكاً لنا، نحن قدرنا أن نرتبط بك فترة من الزمن، لتكوني خشبة مسرح لآخر فصل من حياة إنسان، مؤلمة الأوقات الأخيرة، مؤلم مراقبة شاشة سوداء بها خيوط متعرجة وأرقام، لا يريد أحد خطاً مستقيماً ولا صوتاً متصلاً، بل أصوات توحي بما يشبه النبض.
أنا الآن هنا وحيد، مع هذا البياض، أجمع ذكريات التصقت بكل موقع في هذه الغرفة، السرير، جوانبه، جهاز تحريكه الآلي، المقاعد، الخزنة الجدارية، بعض الأرفف، الطاولة التي تحتل مساحة في الوسط، والتي كنا نجلس حولها نحتسي القهوة مع بعض التمر الذي لا نشعر بطعمه، نبحث عن ابتسامة، ونفرح حين يشع الجسد المسجى على السرير بفرح وسعادة، لا أدري لماذا أتيت، في وقت من المفترض أن أكون بعيداً عنك، ليس لدي ذكريات جميلة مطلقاً في جنباتك، لدي شعور، لا أستطيع أن أسترجعه الآن، شعور من وجد نفسه في زجاجة، يصارع ليخرج من عنقها الضيق، تشكل داخلها فأصبح مثل الماء لا شكل محدد له، أنا الآن خارج هذه الزجاجة، ولكن لست كما كنت قبل ساعات، فقدت الكثير، فقدت أشياء قد لا أدركها إلا بعد زمن، لستِ أنت السبب، مطلقاً، بل أنتِ مكان، وهذا قدرك، لمراسم وداع أحياناً، أو لبداية حياة جديدة، أنا لست عند ذلك المفترق المؤلم، ولكن كنت رفيقاً، رفقه حياة، أنني استرجع ذلك المشهد الكئيب، وأمامي الأوراق التي وجدتها بعد زمن، كتبتُ بها جملا ناقصة، ومقاطع مبتورة، لا أدري هل أمزقها، أم احتفظ بها، أنا الآن أتذكر تلك الدقيقة الطويلة جداً كأنها قرون عندما ذهبت مسرعاً لأراك بعد أن غادرناك جميعاً، دقيقة تحاصرني عندما أشاهد شبيها لك في فيلم أو مسلسل درامي، أو أقرأها في رواية، أو يصفها صديق أو قريب، أنت باقية، تستقبلين وتودعين، وأنا الآن أجمع الكلمات المتناثرة في الأوراق ربما تكون بداية لحكاية جديدة.