د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في زمنٍ غيرِ بعيد كانت مفردةُ «كشتة» محليةً محصورةً في جزءٍ من المنطقة الوسطى، ولها أسماءٌ أُخرُ مثل: «قيلة» في حائل، و«طلعة بر» في مدنٍ أخرى، و «رحلة « بمفهومٍ جمعي، ويقال إن لها أصلًا تركيًا، ورُوي أن أصلها فارسي، وصارت اليوم مفردةً وطنيةً من النفود إلى الأخدود.
** مثلت لنا الكشتة وقت أنْ كنا صبيةً معنىً مختلفًا يعطي معنى «الدهشة» إذ نكون مرافِقين؛ فكأنها رحلة اكتشافٍ للأجواء والناس والأماكن، ثم «انفردنا» مع أصدقائنا بكشتات «المتعة»، وربما مكثنا أيامًا ولياليَ «بجنب الغضا» نزجي الوقتَ حيثُ لا مسؤوليةَ ولا مُساءلة.
** في فترة الدهشة تعرف صاحبكم على كبارٍ لم يبرحوا ذاكرته، ومنهم من صار صديقًا له، وفي طليعتهم ضابطٌ لطيفٌ مرح تُميزه التلقائيةُ والحضور الذهنيُّ والروحُ المضيئة، وقد اعتدنا في بعض العسكريين شيئًا من الجفاء أو الجفاف، وبخاصةٍ من هم في مواقعَ ذاتِ شأن، غير أن الفريق الركن عبدالرحمن بن عبدالله المرشد ظلَّ في أعلى رُتبِه كما عهده الصبيّ في « كشتات» «الخبيّبة والغميس» بعنيزة مبتسمًا، مشرقًا، ذا بهجة.
** قبل بضعة أعوام - بعدما انقطعت الكشتات وقلَّت اللقاءات - اتصل « معالي الفريق» - وكان قائدًا للقوات البرية آنذاك - بصاحبكم مخبرًا أن لديه صورةً نادرةً تخصُّه، وشرطُ استلامها زيارتُه في منزله؛ فسعد بالمصوِّر وبالصورة، وعرف هوايته المبكرة في التصوير، وحيازته «كاميرتين» في وقت واحد، وله - مع الوالد رحمه الله وبعض أصدقائهم - صورة توثق شكلَ إحدى الكاميرتين، وعمرها يزيد على نصف قرن.
** استعادت ذاكرةُ الصغير هذا العَلَم في أكثرَ من مكانٍ وموقف، وترقّى الفريق نائبًا لرئيس هيئة الأركان العامة، وبقي صديقًا قريبًا، وتعززت الوشائجُ أكثر بعدما انتهت خدمتُه فغادر موقعه وظلَّ إيقاعُه، وشهد صاحبكم من توسط عنده لنقل ضابطٍ من مكانٍ قصيٍ إلى مكانٍ أدنى فاعتذر مقتنعًا بعدم جواز النقل قبل مرور أعوام على التعيين ليقينه أن العسكريَّ يُخضعُ الظروف ولا تُخضعه.
** سيرتُه لم تكن ميسرة، والمعاناة التي عاشها تستحقُ السرد، وقد فرغ لنفسه الآن ليحيا أجمل أيامه بعدما اختار الكتابَ مؤنسًا، والأصدقاءَ أصفياء، وصارت استراحته موئلَ استرخائه، ومسجدُ والديه -رحمهما الله - رواءَه الروحي وبرَّه العمليّ.
** يجد متعته في الصباح المبكر مع «المعلقات السبع والعشر» فيستعيد محفوظاته منها، ويتابعُ الإصدارات الحديثة، وبخاصةٍ في مجال السير الذاتية والغيرية، ويقرأ «المجلة الثقافية» ويعلق عليها، ويناقش ما يراهُ ضمن اهتماماته.
** لم يزده اختيارُه في قائمة المشاهير الدولية - ضمن ثلاثة في المئة من آلافٍ تخرجوا في كلية القيادة والأركان الأميركية - إلا تواضعًا غيرَ مُدَّعى؛ فالجنرال هو نفسُه أبو عبدالله بمخزونه من الذكريات والطّرائفِ والحكايات، وكذا الكبارُ المستعصُون على التورم.
** الدهشةُ مدرسة.