وقفتُ مؤخّرًا على كتاب (مدخل إلى كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف: وهو دراسة عن تطوّر الفكر النحويّ عند العرب وأثر الخلاف بين البصريّين والكوفيّين فيه) للمستشرق الألمانيّ جوتهولد فايل، وأفدتُ من سعة تتبع المؤلّف لمسائل الكتاب الخلافية، وتحليله لمضمون الإنصاف لأبي البركات الأنباريّ (ت577هـ)، وقد استوقفتني بعض الأفكار والمعلومات التي أوردها فايل، وهي تحتاج إلى شيء من المناقشة والحوار حولها، ولعلّي أقف معها وقفةَ مناقشةٍ واحدةً تلو الأخرى:
الفكرة الأولى: قال فايل: «وحيث إنّ البصريين اتّفقوا على اشتقاق الصيغ اللغويّة كافّة من الأفعال المجرّدة المعروفة» (فايل، 2019م: ص36).
الذائع المستفيض في كتابات كثيرٍ من النحويّين أنّ البصريّين يرون أنّ الأصل في الاشتقاق هو صيغة المصدر، ويرى الكوفيّون أنّ الأصل في الاشتقاق هو صيغة الفعل (انظر: الأنباريّ، 1407هـ، جـ1، ص235)، و(انظر: الزبيديّ، 2007م، ص111)، وقد وهم فايل في نسبة الرأي باشتقاق الصيغ اللغويّة من الأفعال إلى البصريّين، بل الصواب أنّ هذا هو رأيُ الكوفيّين.
الفكرة الثانية: قال فايل: «وهكذا توصّلوا إلى طرق ربّما لا نعتبرها نحن عللًا بل حيلًا مضحكة» (فايل، 2019م: ص36)، هذا الحكم على علل النحويّين غير مقبول علميًّا، والصواب أنّ العلل النحويّة على ضربين «أحدهما واجب لا بدّ منه؛ لأنّ النفس لا تطيق في معناه غيره، والآخر ما يمكن تحمله إلّا أنّه على تجشّم واستكراه له» (ابن جنّيْ، 1952، جـ1، ص88)، وهي كذلك من حيث نوعُها تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي: «علل تعليميّة، وعلل قياسيّة، وعلل جدليّة نظريّة» (الزجّاجيّ، 1979م، ص64) ويلحظ من تقسيم الزجاجي أنّ العلل التعليميّة، والعلل القياسيّة تعلّمها ضروريّ لدارس النحو، فهما تساعدان على القياس على المسموع من كلام العرب، أمّا العلل الجدليّة النظريّة فقد نوافق فايل في التكلّف في تعليل بعض الأحكام النحويّة بها، ولكن لا يجوز إطلاقًا وصفُها بأنّها حيل مضحكة! ولعلّه تأثّر في ذلك برفض ابن مضاء القرطبي (ت597) للعلل الثواني (القياسيّة)، والعلل الثوالث (الجدليّة) (القرطبي، 1982م، ص130).
الفكرة الثالثة: قال فايل: «وقد عجز البصريون عن منح أيّ قوّة معياريّة لأيّ من تلك الصيغ، ويندرج تحت ذلك على سبيل المثال جموع الضمائر الشاذّة مثل: هؤلاء، وغيرها» (فايل، 2019م: ص 37). تحدّث فايل عن الجموع الشاذّة للضمائر ثمّ مثّل على ذلك بـ(هؤلاء)، وهو اسم إشارة بصيغة الجمع، والسؤال هنا: هل يعدّ فايل اسم الإشارة (هؤلاء) ضميرًا للجمع؟! أليس الضمير مغايرًا لاسم الإشارة؟!
الفكرة الرابعة: قال فايل: «أو حرف الجرّ (دون) الذي يشبه الفعل في نقطة واحدة فقط» (فايل، 2019م: ص47). المتعارف عليه عند النحويّين أنّ كلمة (دون) ظرف (انظر: الحلبيّ، 2014م، جـ4، ص180)، وليست حرف جرّ، ولو عكس المؤلّف العبارة، واستعمل مصطلح الظرف بمعنى الجارّ والمجرور لجاز له ذلك، وهو شائع في عبارات النحويّين مثل: سيبويه والمبرّد وابن السرّاج (انظر: داود، 2018، ص14، 15).
الفكرة الخامسة: قال فايل: «إنّ الغريزة الفطريّة فقط هي التي توجّه الكوفيّين عندما يصدرون أحكامهم دون الخضوع لقيود قالب يتطلّب استنتاجًا منطقيًّا... فإنّ الكوفيّين عديمي(*) المنهجيّة كانوا يسارعون إلى تعميم ظاهرة منفردة، وإلى حشد أشياء متباينة تحت غطاء واحد» (فايل، 2019م: ص 63). في هذا النصّ تحامل على منهجيّة علماء مدرسة الكوفة في النحو، والغريب أنّ فايل قد ناقض نفسه في هذا النصّ الذي يقول فيه إنّ: «البصريّين ابتداءً بزعيميهم الخليل وسيبويه، ومرورًا بالأخفش الأوسط وانتهاء بالمبرّد، والكوفيّون ابتداءً بالكسائيّ والفرّاء وانتهاء بثعلب، قد تطوّروا كمدرستين متجاورتين مع إدراك التناقض بينهما، حيث أسّست كلّ منهما منهجيّة خاصّة، ونظامًا نحويًّا خاصًّا» (فايل، 2019م، ص80).
الفكرة السادسة: قال فايل: «فسيبويه لم يذكر في أيّ موقع أنّه بصريّ، كما أنّه سكت عن الفرّاء والكوفيّين، وبعد قراءة الكتاب الذي وضعه، وشذرات الفرّاء، والكامل للمبرّد فحسب» (فايل، 2019م، ص87)، وقال فايل أيضًا: «لقد كان المبرّد أوّل من تحدّث في كتابه الكامل عن البصريّين في مواضع عدّة كوحدة قائمة بذاتها، وتجمّع مدرسيّ ضمّ العديد من النحويّين» (فايل، 2019م، ص90). المعروف عند دارسي النحو العربيّ أنّ كتاب المبرّد (ت285هـ) في النحو هو المقتضب، أمّا الكامل فهو «كتاب ثقافة أدبيّة جامعة، يزخر بالاختيارات الشعريّة البليغة، وقطع النثر الفنّيّ الجيّد، وتتخلله الأخبار الطريفة المنوّعة» (الداية، 2019م، ص107)، صحيح أنّ كتاب الكا مل في اللغة والأدب «كتاب أدبيّ لغويّ يغلب على مؤلّفه الاهتمام بالنحو والصرف» (الداية، 1999م، ص107)، ولكنّه ليس المصدر الأساس الذي خصّصه المبرّد لدراسة مسائل النحو والصرف، والذي يعود إليه الدارسون الباحثون في علمي: النحو والتصريف. وفي قول فايل: إنّ سيبويه سكت عن الكوفيّين نظرٌ فقد قال في الكتاب: «ولا ينبغي أن يكون في قول الكوفيّين إلّا فَيْعِلًا مكسور العين؛ لأنّهم يزعمون أنّه فَيْعَل، وأنّه محدود عن أصله» (سيبويه، 1982م، جـ4، ص409).
الفكرة السابعة: قال فايل: «لم يقع أيّ خلاف خطيّ أو شفويّ بين الفريقين المتخالفين المزعومين. إنّ الذي قام بجمع هذه المسائل الخلافيّة هم نحويّو القرن الرابع، أي: علماء المدرسة البغداديّة أو المختلطة» (فايل، 2019م، ص93) جزم فايل في هذا النصّ على أنّ بداية التأليف في مسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين كان في القرن الرابع الهجريّ، وهو بهذا يخالف ما قرّره من أنّ ثعلبًا (ت291هـ) قد صنّف كتابًا في اختلاف النحويّين (انظر: فايل، 2019م، ص91)، ومعلوم أنّ ثعلبًا قد عاش في القرن الثالث الهجريّ، ووصفُ فايل للخلاف بين البصريّين والكوفيّين بأنّه مزعوم فيه تجوّزٌ جليٌّ، وقصارى القول بأنّ هذا الخلاف بينهما يحتاج إلى دراسة متأنّية ومدقّقة، وهذا ما دعا إليه محمود شاكر في قوله: «واعلم أنّ الخلاف المشهور بين الكوفيّين والبصريّين لم يُحقّق بعدُ تحقيقًا وافيًا شافيًا» (شاكر، 2018م، ص78)، وقد حقّق هذا الخلاف النحويّ بين البصريّين والكوفيّين في ضوء ما ورد من مسائل الخلاف النحويّ في الإنصاف محمّد خير الحلواني، وتوصّل إلى نتائج مبهرة غيّرت كثيرًا من الأوهام الشائعة حول نسبة المسائل الخلافية إلى المدرستين.
الفكرة الثامنة: قال فايل: «ولا نستطيع الجزم بأنّ ابن يعيش نزيل حلب قد تأثّر بالأنباريّ أو نقل عنه بعد دراسة مصنّفاته، فإذا كان كتابه حواشي المفصّل يحتوي على فقرات شبيهة بكتاب الإنصاف» (فايل، 2019م، ص144). الوقفة في هذا النصّ عند عنوان عمل ابن يعيش (ت643هـ) على المفصّل للزمخشريّ (ت538هـ) الذي وصفه فايل بأنّه: حواشي جمع حاشية، والصحيح أنّه شرح، وليس بحاشية، والفرق بين الشرح والحاشية مستفيض بين العلماء، والدارسين للعلوم الإنسانيّة «فالحاشية يأخذ كلمة ويعلّق عليها، يأخذ حكمًا ويعلّق عليه، الشرح يأخذ الكلام كلّه ويبدأ يفصّل فيه» (آل الشيخ، 1436هـ، ص315)، وفي طبعات شرح ابن يعيش على المفصّل التي وقفتُ عليها كلّها معنونة بشرح ابن يعيش، وليس بحواشي ابن يعيش مثل: تحقيق عبد اللطيف الخطيب، وتحقيق إبراهيم محمّد عبد الله، وتحقيق عبد الحسين المبارك.
وفي الختام، فقد يكون المترجم ملومًا بتركه التعليق على هذه الأوهام والهنات التي وقع فيها فايل، ولا يصحّ الاحتجاج بأنّ المترجم لا ينبغي له التدخّل في التعليق على النصّ؛ لأنّ من منهج المترجم بشير عبد الغنيّ بركات التعليق في الحاشية على بعض ما وهم فيه فايل، لكنّه أغفل التعليق على هذه الأوهام، ومع هذه الملحوظات القليلة، فالكتاب فيه جهد علميّ جليّ لا يسعُ المنصفَ إنكارُه.
الحاشية:
* اقتضت الأمانة العلميّة أن أكتب النصّ كما ورد في الكتاب، والصواب أن يقال: فإنّ الكوفيّين عديمو برفع خبر إنّ، وعلامة رفعه الواو؛ لأنّه جمع مذكر سالم.
- - - - - - - - - - - - -
المراجع:
آل الشيخ، صالح بن عبد العزيز، (1436هـ)، الأجوبة والبحوث والمدارسات المشتملة عليها الدروس العلميّة، جمع وإعداد عادل رفاعي، الرياض، مكتبة دار الحجاز.
ابن الأنباريّ، أبو البركات، (1407هـ)، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويّين البصريّين والكوفيّين، تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، المكتبة العصريّة.
ابن جني، عثمان، (1952م)، الخصائص، تحقيق محمّد عليّ النجّار، القاهرة، المكتبة العلميّة.
الحلبيّ، ابن يعيش، (2014م)، شرح المفصّل، تحقيق عبد اللطيف الخطيب، الكويت، مكتبة دار العروبة.
داود، أحمد إبراهيم، (2018م)، حروف الجرّ عند نحاة العربيّة من سيبويه إلى ابن مالك، القاهرة، مكتبة الآداب.
الداية، محمّد رضوان، (2019م)، المكتبة العربيّة ومنهج البحث، دمشق، دار الفكر.
الزبيديّ، عبد اللطيف، (2007م)، كتاب ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة، تحقيق طارق الجنابيّ، بيروت، عالم الكتب.
?الزجّاجيّ، أبو القاسم، (1979م)، الإيضاح في علل النحو، تحقيق مازن المبارك، بيروت، دار النفائس.
?سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر، (1982م)، كتاب سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي.
شاكر، محمود، (2018م)، مقدّمة في نشأة اللغة والنحو والطبقات الأولى من النحاة، قرأه وعلّق عليه عبد الحميد العمري، القاهرة، دار البشير للثقافة والعلوم.
فايل، جوتهولد، (2019م)، مدخل إلى كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف، دمشق، دار القبس.
القرطبيّ، ابن مضاء، (1982م)، كتاب الردّ على النحاة، ت حقيق شوقي ضيف، القاهرة، دار المعارف.
** **
- د. فهد بن عبد الله الخلف