حين أتابع من طرف خفيّ أحوال بعض المبدعين وأحوال بعض المعجبين بهم يخطر ببالي أسئلة خلاصتها (ما مدى الحصانة الهلامية التي يعتقد المبدع أنها تحيط به وما مدى قناعة الجمهور بهذه الحصانة وجدواها وهل يُسوِّغ الإبداع أصلاً منح المبدع حصانة من نوع ما ضد الانتقاد والمحاسبة البشرية المحضة التي تتخذ أحياناً صوراً تراوح بين أقصى درجات العدالة وأقسى درجات الوحشية ؟).
أزعم أنّ هذه الأسئلة المتواشجة تلامس الواقع من زواياه الإنسانية والاجتماعية والثقافية.
ولو أنّ بعض الناس فكَّر وتَدبَّر في مثل هذه المسائل فلربما طرح مزيداً من الأسئلة المشابهة التي تفضي به في النهاية إلى الطمأنينة حين يتعامل مع الآراء التي تخالف هواه في شأن شخصيات يظن المفتون أنّ تبيان أخطائها مما لا يليق.
في مقال سابق كان حديثي عن المتنبي مثالاً وكان الكلام المخبوء بين السطور أنّ من عاصروا المتنبي عاملوه بمقتضى الواقع لأن الرَّجُل يعيش بينهم فأحبه بعضهم وأبغضه آخرون وليس بالضرورة أن كل من أبغضوه كانوا ينقمون عليه شاعريته كما أننا لا نستطيع الجزم بأن كارهي المتنبي المعاصرين له كانوا مصابين بأمراض عقلية اسوَدَّت بها أرواحهم حتى عميت عن موهبة المتنبي ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن المتنبي العبقري شعراً كان آدمياً ينتابه
ما ينتاب البشر من أطوار قد تشعل العداوة من حوله وعليك عزيزي القارئ أن تنظر إلى المبدع من هذه الزاوية حيث تعزل شخصه عن إبداعه وتنظر إليه من حيث هو آدمي قد يظلم غيره تارة ويظلمه غيره تارة أخرى وقد لا تسرك نتائج هذا التنازع الحيوي غير أن هذه هي الحياة.
لنترك المتنبي وشأنه ولنتحدث عن المبدع الذي تتكرر نسخته في عصور متعاقبة ذلك المبدع المحاط بالمريدين الذين يقاسمونه ظنونه الباطلة فتراه وإياهم يذرعون الأرض افتتاناً وتيهاً معتقدين أن الإبداع يضفي على المبدع نفحة ملائكية تنزِّهُه عن العيب وتوجب على الآخرين أن يختلقوا الأعذار ليغلِّفوا بها أوزاره حتى تعشى الأبصار عن مساوئه ويصير العيب (من وجهة نظر محبي ذلك المبدع) أن يشكوه أحد خصومه إلى القضاء (على سبيل المثال) حين يسيء المبدع إلى غريمه متجاوزاً حدود الشرع والقانون.
هكذا بكل صفاقة يحق للمبدع من وجهة نظر بعض المهووسين أن يتجاوز حدود الأدب والإنسانية الحقيقية ليجرح هذا ويتطاول على ذاك ويطعن في عرض آخر وهم إن لم يقولوا ذلك في صريح اللفظ إلا أن دفاعهم المستميت عن مبدعهم في كل حالاته يشي بمثل هذه المعتقدات الباطلة (ولتعرفنّهم في لحن القول).
إن من يقرأ كتب السير الذاتية سيلحظ لدى بعض المبدعين قَدراً مكشوفاً من النرجسية التي تحمل أحدهم أحياناً إلى اتخاذ مواقف مجحفة في حق من يعاصرونهم من الشخصيات التي كان المكتوب لها في اللوح المحفوظ أن تصبر على أذى أمثلةٍ لا حصر لها من أولئك المبدعين بل أقول كان نصيب هذه الشخصيات التي توصم بأنها (هامشية) أن تصادف فئات من هؤلاء المبدعين في بعض لفتات الزمان فتجشَّمَت هذه الشخصيات الهامشية جَرَّاء هذه المصادفات عناء المواقف الحرجة واحتملت صنوفاً من رداءة الطباع ورأت رأي العين شيئا من ألوان الأمراض النفسية والغرور وبعد كل هذه المواجع يأتي (معجب سقيم) ليمدح شاعراً أبدع في السباب والتطاول على الأعراض ويثني على كاتب قَلَبَ ظهر المجن لأهله وقومه دون سبب منصف وقس على ذلك فئات من المبدعين الذين ظنوا أن الإبداع يعطيهم الحق في جرح الأفراد
والاستخفاف بطمأنينة المجتمعات والحيف الذي ينال من قيمة الإنسانية.
إن من يلاحظ سلوك أولئك المبدعين والمعجبين بهم يشعر أنهم يصنفون الناس كتصنيف الشخصيات في فيلم سينمائي فالبطل لا بد أن يحيط به شخصيات تتولى الأدوار المساندة ثم لا بد بعد ذلك من مجموعات تتحرك في المشاهد جيئة وذهاباً حتى يضربها البطل تارة ويتصنَّع البر بها تارة أخرى فلا لزوم لتلك المجموعات سوى استكمال المشاهد فهل هذه هي الحياة حقا وهل هذه هي الإنسانية التي كان من الأحرى بالإبداع والفنون أن تعالج مآسيها
وأن تسعى لترسيخ قيمها المثلى.
أعتقد جازماً أنْ ليس في الحياة (أمام الله) شخصية هامشية فالكل يعمل والكل راجع إلى الله ومحاسب على صنيعه، أما تفاوت مراتب الناس في هذه الحياة الفانية فالعبرة فيه.
بقوله تعالى (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ. نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا. وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)
هذا هو كلام (خالق المبدعين) جَلَّ جلاله فالغاية من تفاوت درجات الناس دنيوياً هو أن تقدّم كل فئة للفئة الأخرى ما ينقصها وهكذا يُسَخِّر الخالق بعض خلقه لبعضهم الآخر فليست الغاية إذن أن يطغى الإنسان على بني جنسه بل العكس تماماً هو الصواب ورحمة ربك خير مما يجمعون.
يحسن بي وأنا أحاول أن أختم هذه السلسلة من المقالات التي ابتدَأَت بمقال (حين ظننتُ أنني أحبه) أن أعود إلى سيرة (إمام الشعراء) لأقول إن من قتل المتنبي سينال جزاءه أمام الله جَرَّاء (جريمة القتل) التي حرَّمها الخالق جَلَّ جلاله لأن العبرة (عند الله) هي في حرمة الدم وليست في (شخصية القتيل) كما يحاول إيهامنا الهواة من (ضاربي دفوف التقديس) أما المتنبي فلم يكن في يوم من الأيام شخصاً مُنزَّهاً عن العيوب التي نجدها عند سائر البشر وهلاكه كان نتيجة حتمية لزلاَّتِ لسانه ناهيك عن الغطرسة والاستخفاف (بقهر الرِّجال).
وعلى غير المتنبي من المبدعين أن يتذكروا دائماً أن الإبداع لا يقي صاحبه جناية هفواته فثمرات إبداعك أيها المبدع لك أنت أما الناس فليس لهم سوى ثمرات إنسانيتك واحترامك لإنسانيتهم وكم صادفنا في هذه الحياة من (مبدعين على الورق) فلم يلفت الانتباه من شخصيات أولئك المبدعين أي نفحة من نفحات الإنسانية ولا أي شيء من مقتنيات الإنسان سوى (مقتنياتٍ مُبتَذَلة) تَشْمئِزُّ النفوس من ذكرها وتوشك الأبصار أنْ تَكَلَّ دونها أبداً.. (إلاَّ أنْ تُبالِغَ فئة في تلميع المُبْتَذَل!).
** **
- فهد أبوحميد