تزداد متانة العلاقة وشدتها بين الطالب ومشرفه الأكاديمي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، حتى ولكأنك تراهما في تعاملهما كالأب وابنه. ومع تكرار اللقاءات بينهما، يدرس كل منهما شخصية الآخر ويعرف نقاط قوته وضعفه، وقد يحكي الطالب لمشرفه عن مشاكله الشخصية، أو مشاكله مع الأساتذة الآخرين فيسعى المشرف لمساعدة طالبه وكأنه يساعد ابنه، وكما الأب مع ابنه، قد يشتد المشرف ويلين في تعامله مع الطالب، بحسب الموقف، ورغبة منه في التميز والإحسان فيما يقوم به الطالب. وبعد أن يناقش الطالب أطروحته ترى الأستاذ يسارع في حضور حفل التخرج، ويفرح له إن التحق أو ترقى في وظيفته بعد ذلك، وقد تمتد العلاقة والصلة حتى نهاية العمر.
لي في هذا الأمر تجربتان، أحدهما حينما كنتُ طالباً في مرحلة الدكتوراه، في جامعة الملك فهد بالظهران، وكان البروفيسور نصر مراح، يتابع معي مراحل الرسالة خطوة بخطوة، ويطلب مني كتابة الأبحاث المطلوب إرسالها للمؤتمرات أو المجلات المُحَكمة، ثم يجلس معي، يصحح في الكتابة، ويغير في الأسلوب، ويعدل في العبارة، حتى تشربت منه طريقته في الكتابة والأسلوب والتعبير. وكانت هذه التجربة، معينًا لي بعد الله في نشر أكثر من خمسين بحثًا مُحَكمًا في مؤتمرات ومجلاتٍ، ذات معامل تأثير مرتفع. ولا يغيب عني بعض المواقف الجميلة العالقة في ذهني لأذكرها هنا عنه. أولها، حينما كنت في الاختبار الشامل للدكتوراه، وفي الجزء الشفهي منه، وقفت أمام عشرة أساتذة جهابذة في تخصصاتهم، وبدأ كل منهم يسألني في تخصصه، فبدا علي التخبط في أحد الأسئلة التي كانت بعيدة عن تخصصي، ثم كان سؤال الدكتور مراح، الذي فتح الله لي به، فأسهبت بالإجابة، وأعطاني الثقة بعد ذلك. فقد كان المقرر الذي درسته عنده من أكثر المقررات التي علقت بذهني لأسلوبه المتميز بالتدريس. وبعد هذا السؤال، انطلقت مع الأسئلة الأخرى وتجاوزت ذلك الامتحان الصعب بتوفيق من الله. ومن المواقف خلال مرحلة الرسالة، أننا وفي أحد الجلسات توقفنا على مشكلة معينه ولم نجد لها حلاً، فقال لي ممازحاً: حان وقت صلاة العصر، هيا نصلي وسيأتيك إبليس بالحل. وموقف آخر، وهو في نهاية كتابتي للرسالة، حين استشرته، هل أدرج البرمجيات التي كتبتها في نهاية الرسالة، أو أنها حقوق بذلنا فيها الجهد الكبير فلا داعي أن ندعها متاحة للآخرين. فكان رده لي: أدرجها، واجعلها في نيتك صدقة جارية تحصل على أجرها يوم القيامة، على كل من استفاد منها. وكانت هذه الإجابة درساً لي أضعه دائماً أمامي، وهو استحضار النية في كل عمل تقوم به. التشجيع الذي كان يقدمه لي، كان وقوداً خلال مرحلة الدكتوراه الصعبة، خاصة أن مسؤولياتي العائلية والوظيفية كانت في أعلى مراحلها. ومن ضمن الأساليب التشجيعية التي كانت حافزاً لي، حينما تم استضافته في أحد المؤتمرات المهمة في الولايات المتحدة ليكون متحدثاً رئيساً، طلب مني تجهيز البحث لهذا المؤتمر، وكذلك العرض التقديمي. فكان هذا الأمر حافزاً لي أن أثق بنفسي وبما أكتبه، وكان في التعديلات التي قام بها أمامي في إعادة صياغة البحث وكذلك العرض التقديمي، دروساً استفدتها في أعمالي، وخلال عروضي في المؤترات التي قدمتها لاحقًا. هذه المحاكاة لم تكن فقط في العمل البحثي، فقد درست معه أحد المقررات وتمنيت أن تكون دراستي معه لأكثر من مقرر. فاستفدت منه في أسلوب وطريقة العرض المتميزة، وجهده كذلك بالتحضير ومعلوماته الغزيرة التي ترد من خلال الأمثلة. فقد كان المقرر عن الانهيارات الميكانيكية التي تحصل سواء في المكونات الصناعية أو حتى في المنشآت المدنية. وكان من ضمن الأمثلة سفينة التايتانيك، التي وصف وحلل أسباب انهيارها بدقة متناهية. ومن ضمن الحِكم التي أسداها لي: هي أن طالب العلم، كأنه داخل دائرة مساحتها هو مقدار العلم الذي لديه، وطول محيطها هو مقدار معرفته بكمية جهله بهذا العلم. فإذا كانت مساحة الدائرة صغيرة فعلمه قليل وهو يرى طول المحيط القصير فيعتقد أن المجهول لديه قليل، أما إذا كبرت الدائرة واتسع مقدار العلم فسوف يزيد معه طول محيط الدائرة وتزيد معه معرفته بكمية الجهل لديه، ويزيد مع ذلك تواضعه مع الآخرين، وكذلك تعظيمه لخالق ومُصرف هذا الكون. الطالب كذلك يستفيد من أستاذه بأسلوبه في حل المشكلات. وقد أعرض هنا أحدها، فقد كان البروفيسور مراح مشاركًا في أحد المشاريع الكبيرة في الجامعة، وكان هذا المشروع، تحريك ذراع آلي عن بعد، حيث يهدف إلى أن يتمكن الجراح من إجراء عملية جراحية عن بعد، والفني من تصليح سيارة عن بعد كذلك. ومن التجارب التي تمت، بأن قاموا بخياطة قماش بإبرة عن بعد عن طريق الاتصال عبر الإنترنت وباستخدام الكاميرا والذراع الآلي، فكان مشروعًا متميزاً واعداً. وقد واجهتهم إشكالية، في توريد بعض المعدات الخاصة بالذراع الآلي. فاقترح البروفيسور مراح أن يتم تصميم وتصنيع الذراع الآلي بالكامل بالجامعة، وبادر هو بنفسه للقيام بهذه المهمة. وقد كان هذا الموقف، هو أحد الأسباب التي جعلتني أبادر بتأليف كتاب (الأساليب العلمية في حل المشكلات الهندسية) والذي تم عرضه في معرض الكتاب قبل أشهر في جناح جامعة القصيم. وفي الجانب الإنساني كذلك، كان له دور كبير، لا يمكن نسيانه. البروفيسور نصر عمار صلاح مراح، ابن مدينة خنشلة بالجزائر، هو أحد الرموز التي تم اختيارها بعناية للحصول على الجنسية السعودية مؤخرًا، فكانت فرحة طلابه وزملائه كبيرة، بأن تكون الجنسية السعودية تتويجاً لذلك الجهد الذي بذله في خدمة العلم، ومساهمته في النقلة النوعية لجامعة الملك فهد، خلال فترة عمله فيها والتي تصل إلى ربع قرن حتى الآن.
هذه التجربة وهذا التوفيق من الله، بأن وضع في طريقي أحد الأساتذة المتميزين، في أهم المراحل التعليمية في حياتي، تقودني لأن أذكر تجربتي الثانية القريبة زمنياً، مع أحد طلاب الدراسات العليا الذي أشرفت على بحثه لنيل درجة الماجستير. فقد كان معي وكأنه الابنُ البار مع أبيه، وهو المهندس خالد محمد القعدة. كان عائداً للتو من بريطانيا حيث حصل هناك على دبلوم عالٍ في هندسة المركبات، وكان يقود فريقًا بحثياً من طلاب الدراسات العليا على تصميم سيارة سباق الفورملا، وبذل جهدًا متميزاً في ذلك، ثم التحق ببرنامج الماجستير بجامعة القصيم. تعرفت عليه ابتداءً، حين كان يدرس معي، مقرر تصميم التجارب في أول فصل دراسي له لمرحلة الماجستير. وقد وجدت فيه الجدية والحماس والدافعية للتميز خلال إنجازه للمشروع البحثي الخاص بالمقرر. وعندما بدأنا في اختيار موضوع البحث الخاص برسالة الماجستير، وحيث إن اهتماماتي تصب في المواد الهندسية، كان اختيار الموضوع، في توليف مواد مركبة يمكن استخدامها في تصنيع هياكل سيارات الفورملا، وكذلك هياكل الطائرات. هذه المواد تتكون من تركيبة من صفائح الألومنيوم والأنسجة الكربونية. ولم يدر بذهني أن يكون لهذا الموضوع المتقدم تقنياً، وجوداً في السعودية. ولكن التسارع الصناعي الذي نراه في بلدنا جعله، واقعًا ماثلاً عبر الشركة السعودية للصناعات العسكرية من خلال شركة سامي للمواد المُركَّبة المحدودة، لتصنيع وإنتاج الأجزاء المُركَّبة للتركيبات الفرعية الهيكلية الخاصة بالطائرات.
وعلى عكس المتوقع من كثير من طلاب الدراسات العليا، غير المتفرغين للدراسة، فقد كان المهندس خالد يعمل في القطاع الخاص، في عملٍ ميداني لا يخرج منه إلا وقد أنهكه التعب. ومع ذلك كان هو المبادر بالعمل البحثي، ويبقى بورش الجامعة حتى وقتٍ متأخر من الليل. وقد توافق ذلك مع أزمة كورونا، ورحيل العديد من المهندسين في الشركة التي يعمل بها، فلم يبدُ منه، أي تقصير، بل كان يقوم بأعمال بحثية أكثر مما يتطلب مشروع الرسالة، وكذلك يساعد زملاءه الطلاب، سواء في المقررات أو من خلال العمل البحثي. فروح المبادرة لديه والبذل، هي أحد صفاته المتميزة. ومن الأمثلة على روح المبادرة أنه بعد أحد تجارب الصدم، التي تم إجراؤها على الهيكل الذي قام بتصنيعه بالمعمل، كان المطلوب منه أن يأخذ صوراً مجهريةٍ لدراسة التلف الحاصل على الهيكل بعد الصدم عبر مجهر الليزر المتوفر بالكلية، إلا أنه لم يكتفِ بذلك، فذهب إلى كلية طب الأسنان وطلب منهم صورة ثلاثية الأبعاد لقطعة من الهيكل المُتلف عبر جهاز التصوير ثلاثي الأبعاد، المخصص لتصوير الأسنان. وبعد تخرج المهندس خالد، لم ينتهِ عملي معه، حيث اقترحتهُ باحثًا مشاركاً في مشروع بحثي مدعوم، وكان كما عهدته باذلاً جهدهُ، مسخراً طاقاته، حتى أنهينا المشروع ولله الحمد.
من أمنياتي التي أتمنى أن تتحقق قريباً -بإذن الله- أن يشرف أستاذي البروفيسور مراح على رسالة الدكتوراه لطالبي المهندس خالد. والآن يبذل المهندس خالد جهده في العمل البحثي والنشر في المجلات ذات معامل التأثير المرتفع، ليتمكن من الحصول على قبول للدكتوراه، بالجامعة المتميزة، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
** **
أ.د. عبد العزيز سليمان العبودي - جامعة القصيم