عدوى
هل كان حلمًا؟! لماذا تجلس هنا في هذا الوقت؟! هل يمر القطار بعد منتصف الليل؟! المحطة خاوية، تتخلَّص أحشاؤها في الليل من التلبُّكات البشرية. رصيف القطار أغبشُ، تنفث مصابيحه أشعة واهنة؛ امتداد الرصيف يقطع أنفاسها. كأن المكان ينفصل عن البلد والزمن! لماذا تقعد هذه الطفلة مع أمها على كرسي الرصيف الحجري، وتحتجز دميةً بين فخذيها، تدفئها بدثارٍ من لحم كفيها. هل يمر القطار بعد منتصف الليل أو تنتظران طلوع الفجر؟! لماذا تحضران مبكرًا؟! لأنهما زائرتان في بلد لا يحوي سكنًا لهما! تريدان الرجوع إلى الريف، تلجآن إليه مع قهر برودته وتسلط رطوبته وخنق ليله الكئيب. هل جاءت إلى المحطة من أجل هذه الطفلة، أو لها موعد سفرٍ؟! دنت منها وأمرتها: ارمي الدمية! استفز الأمَّ جرأتُها على أمر طفلتها وتطفُّلها.
دوت صافرة القطار القادم أو المغادر، وبَرِحَتا مقعدهما باتجاه بوابته، تتدلى الدمية بيد الطفلة اليمنى، بلا محجرين تختلج عينان تعكسان عالمًا آخر وزمنًا سحيقًا. حين توارت الأم في لجة مدخل القطار ولم يبق إلا يدها اليمنى تقبض يدَ ابنتها اليسرى؛ هرعت واستلبت الدمية منتهزة ارتباك الطفلة، وانشغال أمها. تلفتت الطفلة في ذهول واضطراب يمينًا ويسارًا تفتش عن الدمية، فلم تسعفها جذبةُ أمها الشديدة من جوف القطار بأن ترى الخاطف. رنت إلى الدمية، هل كانت دمية صاحبتها؟! صَمْتُ المكان الفسيح وغَبَش الإنارة الضعيفة أدخلاها في دوامة زمن غابر:
وجدتها ملقاة في صندوق سيارة خربة تقف في فضاء صحراوي، أخذتها متسخة ومبقعة بالزيوت العميقة ومقلوعة العينين، توقها الطفولي يأبى التخلي عن الدمية المستهلكة أو أن تُنزَع من أحضانها، تراءت لها في مدخل الحارة طفلة شاحبة لا دم فيها، صفراء باهتة تصوب نظراتها الحزينة نحوها ثم خفضت رأسها تحدق إلى دميتها بين يديها ثم رفعت رأسها مبتسمة في وجهها ثم اضمحلت في ضباب ودخان. ثم غابت صديقتها إلى الأبد بعدوى مرض نقلته دمية كانت رسالة دعوة من طفلة قادمة من عالم الأموات.
نبذتها تحت مسار القطار، ومشت بينما زرقة الفجر الخريفي تزحف لتدفع السواد وتحيل الرذاذ إلى كتل دخان أبيض كثيف.
الهاربتان
المقهى المطل على رصيف محطة القطار خَلاءٌ ومُطْفَأ الأنوار، تصله الإضاءة من أعمدة نور الرصيف القَتُور، لا وجود لنادله الذي لا يرى إلا وجهه في الطبق المعدني الذي يناول به الزبائن أكواب الشاهي أو فنجانين القهوة، إجاباته إيماءة من رأسه، شعاره لا أرى لا أتكلم. لا أحد في المحطة في هذا الوقت المتأخر من الليل، ولا أثر لفَوعة اليود في هوائه الخَضِل وقد أفعمت هواء النهار في حِدَّتها، يقال إن رائحة اليود تجلب النشوة مثل رائحة الهيل؛ المَسرة تستمدها فقط من ضياء الشمس لا غير، عند مغيب الشمس تفقد الزمن، في الشتاء تفقد الزمن، في محطات التنقل تفقد الزمن؛ تجمعت كلها هنا وهي جالسة على كرسي خشبي بمقعد صغير ومسند هش في هذا المقهى الخالي. هل قصدت في الصباح أكبر مكتبة في المدينة تبحث بكل انشراحِ وَضَحِ النهارِ عن مصادر لبحثها، أو أن الليل يُفقدها الذاكرة أيضًا؟! هل خرجت من المكتبة بعد الظهر لتأكل وجبة سمك في مطعم على ضفة البحر الأبيض المتوسط وهي تتنشَّى نَشْر اليود؟! غير متأكدة، الليل يجعل الأحداث بعيدة أو -ربما- غير حقيقة!
سمعت تهامس وقهقهات مكتومة، لمحت فتاتين في ركن المقهى تتناجيان وتتساران بصوت مع حرصهما على خفضه إلا أن فراغ المكان يجعله يسري بوضوح وصفاء، كانتا تتفقان على عدم العودة إلى ريفهما الخامل، والتوجه من هذا البلد الساحلي إلى عنفوان العاصمة. هل كانتا وهمًا أو حلمًا، لا تدري؟! مخرت صافرة القطار المغادر أو القادم وُجُوم المكان، اختفت الفتاتان، ركبتا القطار، لا تجزم بأن للقطار رحلات بعد منتصف الليل! أوحش المكان بعد أن رحلتا وتلاشت ضحكاتهما، وقفت تُدقِّق في صورة شابٍّ نحيف طويل، له سمت الفلاحين يشول بطفل هزيل، تعمَّدت إحداهما تركها على طاولة المقهى، تعجبتْ من قوة جبروت الجسم الذي يحوي عينًا تطمس صور الأهل والأحباب، وأذنًا تشتت أصواتهم، ويدًا تطمر خطواتهم، ومخًّا يبعثر قصصهم. ها هو ذا القطار الذي سيمضي بها إلى الريف وإياهما قبل أن تخلعا ذاكرتهما وتسترا بدجى مدخل قطار العاصمة، ها هو قادم تخرم أنواره زرقة الأفق التي بدأت تتسلق ظهر الظلام.
** **
- د. سعاد فهد السعيد