جاء في بعض معاجمنا القديمة كالقاموس المحيط للفيروزي (817هـ) وإضاءة الراموس للفاسي (1172هـ) وتاج العروس للزبيدي (1205هـ): (الجُراصِل كعُلابط: الجَبَل) وهذا تحريف شنيع، وقع في بعض معاجمنا القديمة، ولم يحرّره المعجميون، وصوابه: (الجرّ: أصل الجبل)، ونتج عن هذا التحريف نشوء جذر رباعي هو (ج ر ص ل) في المعاجم الكبيرة كالتاج، وكان ابن جني في الخصائص أحد الأسباب لانتشار هذا الوهم والتسليم به، لمكانة ابن جني عندهم، وبهذا التحريف ظلموا الفرّاء (207هـ) وقوّلوه ما لم يقل، فرحم الله علماءنا جميعهم وغفر لهم، فقد اجتهدوا في جمع اللغة وتحريرها، ولا يضيرهم أن نجد لبعضهم تحريفات وتصحيفات متفرّقة، فجلَّ مَن لا يخطئ ولا يسهو.
أما هذا (الجُراصِل) فليس من كلام العرب، وهو تحريف شنيع، وقع في بعض المصادر، وفي بعض معاجمنا القديمة الكبيرة، كالقاموس المحيط للفيروزي وتاج العروس للزَّبيدي، ولم يحرّره أحد فيما أعلم، ووجْهُ خطورته -غير أنه يُقوِّل العرب لم يقولوه- أنه صنع جذرًا رباعيًّا وهميًّا، لا أصل له ولا يصحّ، فقد حَرَّفَ بعضُ اللغويين (الجَرّ: أصل الجبل) فقرأها متّصلة: (الجُراصل: الجبل) وضبطها كعُلابط، ويبدو أنّ هذا الوهم قديم، يرجع إلى القرن الرابع أو الثالث، وأول من رأيته يقول بهذا الوهم: ابن جني (292هـ)، إذ قال في الخصائص: «وحُكِيَ أنّ الفرّاء صحّف فقال الجَرّ: أصل الجبل، يريد الجُراصل: الجبل» (الخصائص 3/ 283) فإن كانت قراءة محمد علي النجار -محقق الصحاح- دقيقة وكتابة الناسخ صحيحة فقد وَهِمَ من حكى لابن جني هذا الوهم.
فهل صحّف الفرّاء كما زعموا؟ وما الوجه الصحيح؟ أهو (الجرّ: أصل الجبل)؟ أم (الجُراصل: الجبل)؟ وما أصل هذه القصة؟ ومَنْ تسبب في انتشارها من المعجميين؟ إننا عند البحث في المعاجم القديمة التي وصلت إلينا منذ معجم العين إلى نهاية القرن الرابع لا نجد (الجُراصل) في أيّ منها، ولم أجد مصدرًا قديمًا غير الخصائص لابن جنّي، وهو في نصّه شاكّ أو كالشّاك، إذ جعلها حكاية مبنية لمجهول، وكل المصادر التي أشارت إلى هذه الكلمة جاءت بها على رواية الفرّاء التي يزعم ابن جني أنها مصحّفة، وأقدم النصوص التي تحت أيدينا هي نص في شرح ديوان ذي الرُّمّة لأبي نصر (231هـ) صاحب الأصمعيّ (210هـ)، رواية عنه، والأصمعيّ يروي عن أبي عمرو بن العلاء (154هـ)، وهم معاصرون للفراء (207هـ)، قال أبو نصر: «وسَفْح الجَبَل: ما ارتفع عن مسيل الوادي، وارتفع عن الجَرّ، والجَرُّ: أصل الجَبَل» (شرح ديوان ذي الرمّة 1/ 73) وفي الغريب المصنّف لأبي عبيد القاسم بن سلام (224هـ)، وهو قريب عهد بالفرّاء، قوله: «والجَرّ: أصل الجبل»(الغريب المصنف 1/ 431 داوودي) وقال ابن قتيبة (276هـ): «والجَرّ: أصل الجبل، والسَّفْح: أسفلُه» (الجراثيم 2/ 34) وقال في (المعاني الكبير 2/ 909): «وكلّ مكان غليظ في سفح جبلٍ فهو جَرّ» وقال كُراع النَّمْل 310هـ في (المنتخب 1/ 431): «والجر: أصل الجبل، وكذلك السفح» وقال ابن دريد (321هـ) في (الاشتقاق 231، 232): الجَرُّ : أصل الجبَل . قال الشاعر:
كم تَرَى بالجرِّ من جُمْجُمَةٍ
وقال في الجمهرة: «الجرّ: سفح الجَبَل حيث علا من السهل إلى الغِلَظ» وفي ديوان الأدب 3/ 5 للفارابي: «والجَرُّ: أصلُ الجَبَلِ». وفي المقصور والممدود 230 للقالي (356هـ): «والجَرّ: أصل الجبل» ومثل ذلك التهذيب في مادة جرر: «والجَرُّ: أَصْلُ الجَبَلِ» وقال الجوهري (396هـ) في الصحح (مادة جرر) والجَرُّ أيضاً: أصل الجبل. قال الراجز:
وقد قَطَعْتُ وادِيًا وجَرّا
وقال ابن فارس (395هـ) في المجمل (مادة جرر): «والجرُّ: أسفل الجبل» ومثله في المقاييس، وفي كفاية المتحفظ 164 لابن الأجدابي (470هـ): «والريد: حرف الْجَبَل. والجر: أَصله» وقال ابن سيده (458هـ) في المخصص 3/ 48: «أَبُو عبيد الجَرّ: أصل الجَبَل، وكذلك الحضن»، ومثل هذا في شمس العلوم 3/ 927 لنشوان لحميري (573هـ).
وجاء في الغريبين 1/ 346 للهروي وغريب الحديث لابن الجوزي 1/ 150 والنهاية لابن الأثير 2/ 623 من حديث عبد الرحمن بن عوف: «أنّ فلانا قال: رأيتُه يوم أُحُد عند جَرّ الجبل؛ أي: أسفله» وفسره الزمخشري (538هـ) في الفائق 1/ 205 بقوله: «كأَنَّه ما أنجرَّ على الأرض من سفحه». فهذه الأقول مع الشاهدين من الشعر تؤيد صحة الجرّ بهذا المعنى، ولم تزل الكلمة مسموعة لدى بعض المنبعيين في بلادنا السعودية، وذكر لي المغرّد عبدالله الروقي في تويتر أنّ الجرّ لم تزل مسموعة لدى كبار السن في عالية نجد، ومعناها عندهم: أصل الجبل، يقولون عند نزول الأمطار: (الجَرّ سايل) أي ما سال من الماء من قاع الجبل إلى الأرض المنخفضة.
فمتى تحرّف (الجرّ: أصل) الجبل فصار: (الجُراصل)؟ لا نعلم، ولكن يبدو من كلام ابن جني أنه تحريف قديم، ولعله وقع لبعض النساخ أو أهل العلم، فانقلبت المسألة على رأسها عند ابن جني أو من حكاه له أو ناسخ الخصائص أو محققه فزعموا أن (الجُراصل) تصحّفت أي تحرّفت عند الفراء فصارت (الجر: أصل) الجبل، ولم أجد في مصادرنا ما يفيد بأنّ الفرّاء كان طرفًا في هذا التحريف، ثم وجدنا ما يفيد أن بعض نُسّاخ الصحاح حرفها أيضاً، أشار إلى ذلك أبو البركات الأنباري في نزهة الألبا (253 تحقيق السامرائي) في ترجمة الجوهري وهو يتحدث عن الصحاح، قال: «وبقي الكتاب غير مُنقّح ولا مُبيّض، فبيّضه بعضُ أصحابه؛ أبو إسحاق ابن صالح الورّاق، بعد موته، وغَلِط فيه في مواضع كثيرة.... ومن أعجب ما فيه من التصحيف، أنه صحف فيه تصحيفًا مركبًا، قال: الجراضل: الجبل، فجعل (الجراضل) كلمة واحدة: بالجيم والضاد المعجمة، وإنما هو الجرّ: أصل الجبل، كما قال الشاعر:
وقد قطعت وادياً وجرا
وابن الوراق هذا هو أبو إسحاق إبراهيم بن صالح النيسابوري الوراق الأديب، حرّف وزاد التحريفَ بلّة بتصحيف الصاد، فجعلها ضادًا. وقد نقل قصة هذا التحريف بعد الأنباري جماعة من أهل العلم منهم: الذهبيُّ (748هـ) في سير أعلام النبلاء، والصفدي (764هـ) في الوافي بالوفيات، وابن حجر (852هـ) في لسان الميزان، وعبدالقادر الكوكباني (1281هـ) في فلك القاموس.
وإنّما راج هذا الجُراصل على يد الفيروزي في القاموس المحيط، وحمله عنه بعض شراحه، ومنهم ابن الطيب الفاسي والمرتضى الزَّبيدي. قال الفيروزي في القاموس في مادة (جرر): «الجَرُّ: أصْلُ الجَبَل، أو هو تَصْحيفٌ للفَرّاء، والصَّوابُ: الجُراصِلُ، كعُلابِطٍ: الجَبَلُ» ومع تنبيهه هذا لم يذكره في الرباعي الذي يقتضيه وهو (ج ر ص ل) لو صح قوله.
وأشار الزَّبيدي في التاج مادة (جرر) إلى قول الفيروزي، وقال: «والعَجَبُ من المصنِّف حيثُ لم يذكر الجُرَاصلَ في كِتابه هذا، بل ولا تَعَرَّضَ له أحدٌ من أئمّة الغريب، فإذن لا تصحيف كما لا يَخْفَى». وتردّد الزبيدي فيه ظاهر، ثم عزم أمره ووضعه في جذر (ج ر ص ل): جاء فيه: «الجُراصِلُ، كعُلابِطٍ: وهو الجَبَلُ. ذكره المصنِّف في (ج ر ر) وأغفله هنا، فانظُره. نَبَّه عليه شيخُنا». وشيخه الذي يعنيه هو ابن الطيب الفاسي الشرقي صاحب إضاءة الراموس، وهو شرح للقاموس، ويبدو أنّ الزَّبيدي تابعه في هذا الجذر الرباعي في كتابه، وهو وَهْمٌ شنيع منهما بنياه على قول الفيروزي في القاموس.
وبهذا أقول: إن الجراصل لا أصل له في اللغة، ويجب التنبيه على غلطه في معاجمنا، وبهذا ينبغي عدّ جذر (ج ر ص ل) مهملا، ويجب ترك هذا الجذر من تاج العروس وأي معجم وقع فيه.
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي