عند التعاطي مع دانتي كنتاج أدبي شعري، ثق بأنك ستجد نفسك وقد تعاملت مع أيقونة تعبير قائمة بذاتها بلا جدال، إذ ستجد المقدس يختلط -في بعض الأحيان- مع المدنس في أدبه. وستجد الثيولوجيا تمتزج مع الأسطورة لتخرج علينا تعابير شعرية هي أقرب للغرائبية الأدبية منها للتقليدية في التعبير.
فدانتي الذي أعده العالم أسطورة شعر ليس لها مثال، نجد فيه ملمح تدين، هو في تقديري من قد أمده بتلك الأفكار الأدبية المتسمة بالفرادة في التعبير في أدبه، الأمر الذي جعل من نصوصه رجع دوي لتلك النصوص اللاهوتية، وذلك والوعظ الإنجليكاني الذي سمعه وقرأ تدويناته في صباه.
إن عبقرية دانتي كشاعر ذائع الصيت والأثر، تنبعث في رأيي من ذلك التجديد الشعري الذي أصّل له في ملحمته الشعرية الخالدة التي عرفها العالم تحت مسمى الكوميديا الإلهية، أو كما يحلو للبعض تسميتها بالملهاة الإلهية.
وهي عبارة عمل أدبي يتسم بالفرادة، سواء في محتواه أو من خلال تشكيله. أعده المهتمين بالشأن الأدبي أحد أعظم الأعمال الشعرية التي كتبت في القرون الوسطى وينظر له البعض الآخر باعتباره تحفة أدبية خالدة على مر العصور.
وعند مطالعتنا لهذه الملحمة الشعرية في بنيتها التشكيلية، سنجد بأنها تنهض على ثلاثة أجزاء رئيسة، قد بنيت في واقعها التشكيلي على أجزاء صغرى كذلك. وهذه الأجزاء الرئيسة تشمل:
- الجحيم Inferno، الذي يتألف من34 جزء، بعدد أبيات شعرية يبلغ تعدادها 4710 بيتاً شعرياً.
- المطهر Purgatory، وقوامه 33 جزءً ، وتعداده 4755 بيتاً.
- الجنة Paradise وهي عبارة عن 33 جزءًا، وتصل أبياته الشعرية لـ 4758 .
هذه الأجزاء الثلاثة يغلب عليها الرتم - الإيقاع - الشعري القوي، كما يحوي كل جزء منها 33 نشيداً Cantos، مقسمة لتسعة فصول، مع فصل إضافي عاشر. في حين أن مقاطع النص قد تم تشكيلها في قالب موشحي يتألف من ثلاثة أبيات شعرية. بحيث يكون البيت الشعري الأول والثالث من كل مقطوعة شعرية يأتي على وزن البيت الثاني من المقطوعة التي سبقتها، وعلى هذا المنوال تم بناء هذه الملحمة الشعرية التي لا يزال صداها يتردد في واقعنا الأدبي العالمي الراهن.
وعند تأمل تلك الموضوعات التي عالجتها هذه الملحمة الشعرية؛ سنجد بأن الجزء الأول منها قد تمثِّل في الجحيم Inferno، حيث بدأ الشاعر في تشكيل محتواه منطلقًا من خلال قضية «التيه» التي وجد دانتي نفسه عالقا في خضمها عبر وجوده في غابة قد لفها الظلام . هذه الجزئية من الملحمة في محتواها الدلالي تمثل في الواقع تعبيريًا عن الشر الذي يرى دانتي بأنه قد وسم الحياة بطابعه. ويبرز من خلاله أيضًا؛ ذلك الشعور المتعاظم لدى دانتي بتفاهة هذه الحياة الإنسانية التي يتكالب على ملذاتها ومكاسبها البشر في حين أنها في حقيقتها لا تساوي جناح بعوضة.
ثم يمضي النص ليقول لنا بأن قضية التيه التي واجهها دانتي في هذه الغابة الحالكة السواد كادت أن تفقده عقله، إلى أن شاء القدر أن يجعله يلتقي بالشاعر الروماني الشهير فيرجل الذي عمل على إخراجه من تيهه هذه وأخذه معه في رحلة إلى العالم الآخر.
حيث يدخلان معاً للجحيم الذي رسم له دانتي صورة عبر النص تمثلت بهوةٍ عميقة مخيفة على شاكلة المخروط تمتد لجوف الأرض، تحوي تسعة دوائر وتحفل بالعديد من البشر الذين صب على رأسهم سوط عذاب.
في حين يأتي لاحقًا الجزء الثاني من هذه الملحمة الذي أسماه دانتي بالمطهر Purgatory، والذي يقع في جبل صوره الشاعر على شاكلة المخروط كذلك، إلا إنه يحوي سبع طبقات. ومن خلال شرفات هذا الجبل يطل دانتي ودليله على أولئك الموتى الذين قد وهبوا الخلاص. وهم في سعيهم المحموم لتحصيل الغفران على الخطايا والآثام التي قارفوها أثناء وجودهم الدنيوي على أرض البسيطة.
وعبر متتالية الألم والأمل، والجهد والصبر يستطيع الفرد أن يطهر نفسه من بعض تلك الآثام التي قارفها في حياته الدنيا ليتمكن من أن يرتقي لخطوة تتبعها الأخرى، منتقلًا من طبقة سفلية لأخرى علوية تليها. ويوضح لنا دانتي أن الفارق بين الجحيم والمطهر يتمثل في كون أولئك القابعين في الجحيم يدركون بأن عذابهم سيكون أبدي، في حين أن من بالمطهر يعون بأن بعد هذا العذاب الوقتي سيكون هناك أمل بحياة أخروية سعيدة قادمة.
ليأتي الجزء الثالث المتمثّل بالجنة Paradise، والذي يسلمه فيه مرشده الشاعر الروماني فيرجل لمرشدة أخرى هي بياترس. التي تصحبه في رحلته النورانية عبر السماوات التي حددها دانتي بثمان سماوات كي يصل أخيرًا للجنة.
وهنا - في هذا الجزء الجزء الأخير من هذه الملهاة- يتجلى تدين دانتي الذي أنعكس في نصه الشعري، وهو تدين قد استقاه من قراءاته لبعض مما ورد في العهدين القديم والجديد عن نعيم الجنة. تلك الجنة التي يصور نفسه في النص وهو يرتقيها من طبقة سماوية إلى أخرى، ليصل أخير إليها وليضفي على قاطنيها صفات بشرية وينطقهم شعرا يعبرون فيه عن واقعهم الحياتي المعيش.
أن هذه الرحلة الخيالية التي استغرقت من دانتي وقتاً زمنياً قوامه الأسبوع، قضى الشاعر يومين منه في الجحيم وأربعة أيام أخرى في المطهر لينهيها بيوم آخر في الجنة، تمثل تحفة أدبية سواء عبر البنيوية التركيبية للنص أو من خلال ميكانيزمات المعالجة، إلى جانب التجديد في الطرح والتناول والعرض والتشكيل. وقد استحقت فعلا كل ما أحيطت به من هالة ضوء إشادي، وحق لها أن تبقى عملاً يشغل الشعراء والنقاد والمهتمين بالحراك الأدبي على امتداد التاريخ الإنساني.
ولسوف أقدم في مقالي القادم ترجمة جديدة وافية للقسم الأول منها وأعني به الجحيم أو كما يدعوه البعض بالأنفيرنو، فإلى موعدنا القادم أتركك أيها القارئ على خير.
** **
- د. حسن مشهور