ما يزال يذكر جلسة على بركة بستان والده ضحى يوم صائف، بعد أن اجتاز الصف الأول الابتدائي بنجاح، لما جعل أحد أقربائه ممن يكبره بسنة يخوِّفه من الصف الثاني، ويسوق له من واقع تجربته الأخبار الموثقة، والحقائق المؤكدة، والشواهد الواقعة على صعوبة الصف الثاني وفرقه عن الأول، فلما بلغ الفتى الصف الثاني ورأى فيه من اليسر ما لم يره في الأول، واجتازه بأحسن مما اجتاز الأول، لم يحفل بعد ذلك بما يرجف به المرجفون من التخويف، وما يجللون المستقبل به من التهويل، وجعل يقيس كل تهويل على خبر صاحبه ذاك.
وكانت الدراسة المنهجية في مرحلة الماجستير إحدى المراحل التي سمع فيها ما سمع، وحذر فيها وأنذر، ونُصح حتى ملَّ مكرور كلام الناصحين، وما أثقلَ الكلام المُعاد! وكانت الصعوبة ماثلة أمامه في جانبين، أحدهما ما يتعلق بالمادة العلمية، كثافتها وعمقها، وكثرة التكاليف فيها، وتعامل أساتذتها، والآخر في المدة التي سيقضيها مسافرًا بعيدًا عن والديه الكبيرين، اللذين لا يستغنيان عنه، ولا يستغني عنهما، وقد عزم لأجل ذلك ألا يبقى في مقر دراسته في الأسبوع إلا وقت محاضراته، ويعود فور انتهاء آخرها قافلاً إلى أهله.
وفي أول أسبوع دراسي، تجلى له من لطف الله تعالى ما تفاءل فيه، وقابله من أمارات التيسير ما شرح صدره، وآذن بتيسير أمره، فقد أسند للدكتور عبد الله بن حمد الخثران ( 1359 - 1443هـ) رحمه الله تعالى تدريس مادتين من مواد البرنامج، أصول النحو، وتاريخه، لكل منهما ساعة واحدة، فلما اجتمع بهم أول مرة، قابلهم بشرُ وجهه، ورقةُ نفسه، وعذوبة كلماته، وصدَّرَ أول حديثه معهم بعبارة لا تنسى أبدًا: «كم عددكم؟ عددكم ثمانية! أنتم لستم ثمانية طلاب، أنتم ثمانية أصدقاء جدد.. اليوم زاد أصدقائي ثمانية»! وكانت المحاضرة كلها على هذه الوتيرة من الحميمية واللطف.
وتحدث في تلك المحاضرة عن منهج الدراسة وطريقة الشرح، واقترح أن تُقدَّم محاضرة اليوم التالي ليمتد الدرس ساعتين، فلا تقطع أجزاؤه، ولا يتشتت البحث فيه، فيتخلص كل أسبوع بمادة، بالتناوب، فوافق الزملاء على هذا الاقتراح، وكان سببًا لأن تنقص أيام الدراسة في الأسبوع يومًا!
لقد بددت محاضرتاه المخاوف، وبثتا التفاؤل، فثبتت هيبته في النفوس، هيبة احترام لا خوف، وحبٍّ لا تجنب شر، وكم غبي المتعجرفون المتسلطون هذا المعنى، فأرهبوا ليهابوا، وتكبروا ليحترموا، وما علموا أن احتقارهم بمقدار تكبرهم، واجتواءهم بمقدار تعجرفهم، وما تلبث هيبة المخافة أن تزول إذا زال سببها، وتستحيل ازدراءً واستخفافًا، أو تجاهلاً ونسيانًا، وتبقى هيبة الاحترام والمحبة ما شاء الله؛ لأن سببها لا يزول، وأثرها لا يستحيل.
لقد تأثر صاحبكم بما أخذه عن شيخه الخثران من الأطر النظرية للنحو، في أصالته وتاريخه، ومنهج البحث فيه، فقد علَّ من معينه بعد ما نهل منه، فدرَّسه مرة أخرى في منهجية الدكتوراه مناهجَ البحث اللغوي، فأتم ما بدأه معه، ومن طريف ما يذكره أنه اعتمد على بعض كتب شيخه فأكثر من الإحالة إليها في (التمهيد) في رسالة الماجستير، وكانت كثرة ملفتة، أخذها عليه المشرف على رسالته د. عبد الجبار توامي، ووجهه إلى العودة إلى مصادره، ولما عرض مقدمة رسالته على شيخه د. عبد الرحمن العثيمين رحمه الله، ورأى كثرة الرجوع إلى كتبه، قال ممازحًا: (ما خلق الله إلا الخثران؟)!!
وهذا الذي أخذه عليه المشرف والشيخ مأخذ صحيح، فهو خطأ منهجي واضح، وذلك أن الإحالة تكون على مصدر الرأي الأصيل، فكتب المؤلف مصدر لآرائه هو، وأما ما ينقله عن غيره فمصدرها كتب المنقول عنهم، ولعل الذي غرَّ صاحبَكم وأدَّاه إلى هذا الغلط عجلة قادته إلى عد التمهيد مرحلة تجاوُز، يمر بها كعابر السبيل، ثم يحط رحله في صلب الرسالة، فيكون ثمة التدقيق والاستقصاء!
لقد تميز رحمه الله بحسن التأليف، والمبادرة إلى النشر، فأخذت مؤلفاته مكانها في مكتبة التخصص، ووصلت إلى أيدي الباحثين، فنقلوا عنه، وأثر فيهم، متابعة ومناقشة ونقدًا، وكان من أوائل السعوديين الذين كتبوا في هذا التخصص ونشروا، فأثبت بعضَ أبحاثه د. عفيف عبد الرحمن في كتابه: (الجهود اللغوية خلال القرن الرابع عشر الهجري) غير أنه أخطأ في اسمه مرات، فسماه الختران في الموضع، وفي آخر الخنزان، وفي موضع عبد الله بن أحمد، وفي الآخر عبد الله بن حمدان!
كان منهجه في تقديم محاضرته الاعتماد على الإملاء، فيستغرق المحاضرة كلها، إلا وقفات يسيرة يناقش فيها فكرة، أو يستعرض رأي الطلاب في قضية، غير أن ثمة شيئًا يأتي عرضًا، آراء في الكتب والرجال، أو نصائح في الحياة والمعاملة، ومن ذلك ما حدثهم به من بركة العلم والبحث، والتأليف والتدريس، وفضل الاشتغال به مدى العمر، فمن كان نهمه فيما يتأتى حال كبره فهو في نعمة عظيمة، وجعل نفسه مثلاً للنشاط الذي يحفزه، والشعور بنشوة العطاء الذي يغمره، مقارنًا حاله بحال بعض زملائه الذين أغراهم التقاعد بالقعود، فصُرفوا عن العطاء ونشوته إلى ترقب المرض وسطوته... وصاحبكم وهو يستمع إلى حديثه العفوي المؤثر، يجتول في ذاكرته هذا المعنى، وتتراءى له صور كان قد رآها، فأين قرأه؟ أعند العقاد في مقالاته في الهلال التي كان يقرؤها في مكتبة أبيه، أم حدثه به أستاذ أو صديق؟ نعم، لقد ذكر العقاد أن من كان شغفه بهواية شاقة كان متاعها منها محدودًا، وأمده في ممارستها معدودًا، وأما من كان شغفه بالقراءة والكتابة، فإنه يمتع به وإن طال عمره، ووهنت كثير من قواه، ومثل بنفسه، فإنه لا يحد فرقًا بين شبابه وكبره إلا أنه كان يقرأ الساعات المتواصلات، فلما كبر كان يريح عينيه دقائق بعد كل ساعة! هذا الذي تغير فقط.
رحم الله د. الخثران، صنع هيبتَه واحترامَه معرفتُه بحاجات النفس، وقدرته على إرضائها فأحسن المعاملة، وألان الكلام، فبقي في الوجدان لا في الذاكرة فحسب، وما ذاك -والله أعلم- إلا لإخلاصٍ كان يلازم عمله، ويستولي على قلبه، رحمه الله وغفر له.
** **
أ. د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم