ما أقسى لحظات الوداع، وما أشد ألم الفراق على الإنسان، ودَّعته بالأمس وفي النفس حسرات وذكريات لن تُمحى من الذاكرة، ودعت بالأمس صندوق البريد الخاص بي، بعد مدة طويلة بلغت 21 عاما، فهي أطول فترة اشتراك في صندوق بريد في حياتي، وقد سبقه عدة صناديق اشتركت بها في بعض الأماكن، ولكن لم يطل الاشتراك بتلك الصناديق أكثر من 10 سنوات؛ لأن بعضها كان بعيدا عن منزلي، وبعضها ليس حكوميا - أهلي - ولكن هذا الصندوق العزيز ارتبط بي وارتبطت به طوال هذه السنوات الطويلة، لدرجة أنني لم أعد أطيق الغياب عنه أكثر من يومين، فلطالما حمل إلي الكثير من الكتب والمجلات، عدا الرسائل الأدبية والأخبار الجميلة من بعض الأصدقاء والمعارف، فلا يمر أسبوع إلا وأجد رسالة أو أكثر تنتظرني من أديب أو شاعر، فأسر كثيرا بتلك الرسائل، وأقرأها حال خروجي من مبنى البريد، ولا أنتظر حتى أصل المنزل ثم أقرأها، وذلك قبل أن تغتال التقنية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي الرسائل التقليدية، فتحرمنا بذلك من متعة كتابة رسالة بخط اليد، أو انتظار رسائل قادمة.
كانت أسعد اللحظات في حياتي حينما أفتح صندوق البريد وأجد رسالة أو أكثر، فأشعر وكأنني عثرت على كنز ثمين، فأضم تلك الرسائل الغالية إلى صدري بشوق، وأشم رائحة الحبر تنبعث من داخل المظروف الملون.
ولقد كنت طوال حياتي حريصا ألا أتأخر في الرد على كل رسالة تصلني مهما كثرت الرسائل، فكنت أحرم نفسي من قيلولة الظهر - في بعض الأحايين - لأرد على رسائل هؤلاء الأصدقاء دون تذمر.
وأذكر من عجائب البريد التي لا تنتهي - وما أكثرها - أنني بعثت برسالة قبل 25 سنة للأديب والطبيب الراحل عبد السلام العجيلي - رحمه الله - على عنوانه في محافظة الرقة بسوريا، فضلت رسالتي الطريق وذهبت إلى فنزويلا بالخطأ، ثم مكثت فترة من الزمن هناك، وعادت إلى الرقة، وفوجئت ذات يوم وأنا أفتح صندوق البريد برسالة من د. العجيلي وبداخلها غلاف رسالتي السابقة وعليه ختم بريد فنزويلا!!
ومن القصص الطريفة أنني تلقيت من الشاعر العراقي عبد الخالق فريد - رحمه الله - مجموعة من دواوينه ودراساته، أرسلها إلي من حلب وليس من بغداد؛ بسبب اضطراب البريد في العراق آنذاك، وتقديرا مني لأريحيته ولظروفه المادية كتبت له رسالة شكر وامتنان، ووضعت بداخلها مبلغًا بالدولار - ورقة واحدة - فإذا برسالة منه تصلني بعد أسبوعين، يشكرني فيها أجزل الشكر، وفي الوقت نفسه يعاتبني؛ لأني غامرت وأرسلت هذا المبلغ في رسالة عادية، وأن تصرفي هذا يعد مخالفة قانونية، وكان من المفترض إرسال شيك رسمي عن طريق أحد البنوك.
كان بريدي متخما بالرسائل والمطبوعات أكثر من 30 سنة، ثم حدثت تطورات وتحولات في مجتمعنا وفي العالم كله جعلتني استغني مؤخرا عن صندوق البريد إلى الأبد؛ بسبب ظهور النت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ووصول البريد إلى باب المنزل دون عناء، فاستغنى الناس عن كتابة الرسائل التقليدية الشاقة، وقلت الحاجة إلى صناديق البريد التقليدية بعد أن أدت غرضها في زمنها، وارتاحوا من تكاليف أجور البريد الباهظة، ومن ضياع الرسائل التي طالما عانى منها كثير من المشتركين، كما أن من الأسباب المهمة في الاستغناء عن صندوق البريد، ارتفاع قيمة الاشتراك السنوي، وغلاء أسعار البريد - الداخلي والخارجي - وتوقف الكثير من المطبوعات والمجلات - اشتراك أو ترسل إلي مجانا - مثل: المنهل، واقرأ، والضاد، والثقافة، والأدب الإسلامي، والإعلام والاتصال، وخلو صندوقي من الرسائل الأدبية بعد وفاة العديد من الأدباء الذين كنت أراسلهم، وبعضهم - وإن كانوا قلة - ما زالوا أحياء، ولكن غلبت عليهم الشيخوخة وأمراضها ومتاعبها، حتى أصبح صندوقي في النهاية قاعا صفصفا!
لقد ازدادت الشكوى في السنوات الأخيرة من ارتفاع أجور البريد، وصرنا نسمع عن أجور مبالغ فيها، وأذكر بهذه المناسبة أنني وجدت في رمضان الماضي في المعرض الخيري - الذي يقيمه سنوياً النادي الأدبي بالرياض - نسخة من رسالة علمية كان قد طلبها مني صديق مصري عنوانها «صورة المجتمع في الرواية السعودية» فاشتريتها بخمسة ريالات، وحينما ذهبت إلى مكتب البريد لإرسالها طلبوا 130 ريالا!
ومن دواعي سعادتي أن يقع صندوق بريد دارة الملك عبد العزيز بجواري، فهو ملاصق لصندوقي من اليمين، ومن حسن الحظ لم يحدث - ولله الحمد - خلال أكثر من عقدين من الجوار أن وقع أي شجار بيننا، ولم أحاول من جانبي أن أختلس بعض النظرات على ما بداخل صندوق الدارة؛ تقديرا لحقوق الجار.
بقي أن أقول إنني حينما اشتركت في صندوق البريد في صيف عام 1422هـ كان نظري جيدا آنذاك، وكان بعض كبار السن يستعينون بي - في بعض الأحايين - لإرشادهم لأماكن صناديقهم، وهأنذا الآن أودع صندوقي وأضطر أحيانا - إذا نسيت نظارتي - أن أستعين بأحد الموظفين ليرشدني مشكورا إلى رقم صندوقي!
** **
- سعد بن عايض العتيبي