د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لم اعتد أن أكتب وأنا متأثر، أو أن أقول أو اتخذ قراراً مجحفاً وأنا مستأثر، ولكن جملة عابرة طرقت مسمعي، واستجلبت قلمي، وهي تلك التي قيلت حول المهاجرين الذين يحاولون العبور من بلاروسيا إلى بولندا، حيث اقترح أحدهم منع الرحلات من الشرق الأوسط إلى بلاروسيا حتى لا تتدفق تلك الموجات من المهاجرين الذين يفعلون المحال، بعد تغير الأحوال، وانتشار الفتن بعد الغرق في المحن، والجو في بيلاروسيا كله قر، وليس منه مفر، والأطفال جوعى، والنساء غرثى، ولا يملك الرجال من الأمر لا نهياً ولا أمراً، فيا لها من مآس وأحزان، ومواجع تقشعر منها الأبدان، لكنها إرادة الله وكفى.
كم من هؤلاء من لديه مهارة، أو يتقن التجارة، ويحسن صياغة العبارة، وكم منهم من هو ذو شرف ونسب، وسؤدد وحسب، أقالوا عثرة كرام، وها هم قد عثروا، فمن يقيل عثرتهم، وقد طوت النائبة صحفهم، فمن يفتح دفاترهم، ويظهر بديع صفحاتهم، وكم منهم من كان عزيز فذل، وغني فافتقر، وعالم ضاع بين جهال، جلهم من أبناء بناة الحضارة من السومريين، والكنعانيين، والفينيقيين، والآشوريين، والبابليين، والعموريين، والغساسنة والمناذرة، والعرب العاربة والمستعربة، وبقايا الأمويين والعباسيين القرشيين، والحمدانيين التغالبة، وهذا لا يعني خلوهم من الآحاد القليلة، ذوي الطوية غير الجليلة، اتخذوا التقوى غطاء، والدين رداء، ليحققوا مآرب خبيثة، وأهداف غير شريفة.
هؤلاء المهاجرون اليوم، يلبسون الأطمار، ويفترشون الأرض دون دثار، يكتفون باليسير من الطعام، والكدر من الشراب في أغلب الأيام، وكأنهم ذات يوم لم يرتدوا الفراء الناعم، ويتحلون بالقلائد والخواتم، ولم يناموا على سرير، ويفترشوا الزرابي من الصوف والحرير، ولم يأكلوا الشواء والفطير، وهم كرام بطبعهم، لا يفرقون بين غني وفقير، ووضيع وقدير، وهم كما قال طرفة بن العبد:
نَحنُ في المَشتاةِ نَدعو الجَفَلى
لا تَرى الآدِبَ فينا يَنتَقِرْ
أي أننا في فصل الشتاء، وعندما يشتد البرد، ويحتاج الناس إلى الموائد، فإن الآدب أي الذي يدعو إلى المأدبة يدعو الجفلى، أي من حوله جميعاً دون تفريق بين الأغنياء والفقراء، أو أولئك الذين تربطه بهم مصلحة، فالآدب عندهم لا ينتقر أي لا يخصص أو ينتقي، وإنما دعوته مفتوحة، لمن أراد الرفادة، وتناول الطعام. هكذا كانت طباعهم، وهكذا كانوا في ديارهم، واليوم يقطعون الفيافي والبحار، هرباً من أوطانهم، مهجرين أو مهاجرين فسيان بين الاثنين.
فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ
عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ
يقول أبو البقاء بن الرندي:
فَجَائِعُ الدهرِ أَنواعٌ مُنَوَّعَةٌ
ولِلزَّمان مَسَرّاتٌ وأَحزانُ
لكن يا ترى، لماذا يغامر هؤلاء بأرواحهم، تاركين أهلهم وديارهم؟ يبدو أن الباحث عن جواب للسؤال، كلاهث خلف سراب بقيعة في يوم قائظ، يحسبه الظمآن ماء، لكن ذلك لا يمنع من الاجتهاد لتلمس الأسباب، والبحث عن جواب، أقرب للصواب، وكما هي حال الظواهر النفسية والاجتماعية، لا تخضع لسبب واحد، وإنما لجملة مؤثرات، فالإرهاب وتبنيه، وانتشاره أو نشره وتفشيه، أحد تلك الأسباب، الدافعة للهجرة ومفارقة الأحباب. فالإرهابي يقتل بلا حدود أو قيود، متى ما أمكنه ذلك.
الشرق الأوسط مهد الحضارة، ومصدر العراقة والأصالة، وقد تكونت حضارات عبر مجموعات صغيرة كانت موجودة في مناطق مختلفة، فأصبح لكل من تلك المجتمعات عاداتها الخاصة وثقافتها المميزة، ثم ما لبثت أن كونت لغتها الخاصة بها، ولكنها لم تقف عند هذا الحد، بل امتدت إلى ما هو أبعد فانتشرت تلك العادات والثقافات، لكن المؤثرات الخارجية والداخلية أوهمت البعض بأن هناك سمواً عرقياً، يتوجب أن يقاتل لأجله دون حدود، والتضحية دون قيود، حتى يصبح الطرف الآخر مجرد خادم له، بطريقة ظاهرة أو باطنه، وهذا يعني اقتتال، وفقد للأمن.
التعصب الطائفي ليس ظاهرة شرق أوسطية، ولكنها ظاهرة استغلالية يستفيد منها أفراد أو جماعات، للوصول إلى غايات، وهذه من أسهل الطرق، لأن الشرق الأوسط بطبيعة أهله عاطفيون، يسهل استعطافهم واستمالتهم عن طريق زرع الآمال، والتدين، فينساق الأغلب ويصبح أداة يتم التضحية بها لبلوغ أولئك أهدافهم، ومراميهم.
ويبقى التدخل الإقليمي أو الأجنبي، هو العامل الرئيس والمحرك للاستفاده من هذه التركيبة النفسية والاجتماعية لهذا المجتمع الكريم، ويكون القتل والدمار في سبيل تحقيق استراتيجيات بعيدة المدى، وتكون الهجرة والعيش في أرض الغربة.