د. عبدالحق عزوزي
وصل الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض بعد إقناع الناخبين بأنه يملك الإستراتيجية والخبرة والتجربة السياسية لمحو آثار ما خلفه حكم ترامب على البلاد. ووصل إلى البيت الأبيض مركزاً على عدة ملفات، محدداً أولويتين هما مكافحة وباء كوفيد - 19 وإعادة توحيد بلاده المنقسمة. وقام بايدن بإلغاء انسحاب واشنطن من منظمة الصحة العالمية وإعادة الولايات المتحدة إلى اتفاق باريس للمناخ وإلغاء المرسوم المتعلق بالهجرة الذي يحظر دخول مواطني دول عدة ذات أغلبية مسلمة إلى الأراضي الأمريكية؛ إلى غير ذلك من الإجراءات التي وعد بها الناخبين الأمريكيين في حملته الانتخابية.
ولكن مهمة الرئيس الأمريكي جداً صعبة في معالجة الانقسام الحاصل في المجتمع الأمريكي، بعد معركة انتخابية شرسة؛ فأولئك الذين منحوا أصواتهم لترامب، يتعدى عددهم 70 مليون شخص، وهم يمثلون كتلة واسعة في المجتمع الأمريكي، ويرتبطون بصورة وثيقة بشخصية ترامب وسياساته، التي أرساها خلال فترة حكمه التي امتدت أربع سنوات فيما يعرف بـ»الترامبية والتي فيها توسعت الهوة بين المجتمع الأمريكي المنقسم أصلاً بين الحمر (الجمهوريون) والزرق (الديمقراطيون).
وبدلاً من إطلاق دعوات جامعة على غرار أسلافه، لعبت «الترامبية» على خوف الأمريكيين. ولوحت بشبح المهاجرين غير الشرعيين واصفة إياهم «بالمغتصبين»، وجعلت نفسها الضامن الوحيد «للقانون والأمن» في مواجهة تهديد «اليسار الراديكالي». وهذا الإرث الترامبي لم يطبع الحزب الجمهوري الأمريكي بطابعه الخطير فحسب، بل أسس لشعبيّة ستظل، على الأغلب، فاعلة ومؤثرة لسنوات طويلة مقبلة...
وإذ نستحضر الانقسام الواضح الذي خلفته الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والأحداث العنيفة التي تلتها، لابد وأن نستحضر أيضاً كلمات الرئيس بايدن الذي قال عند وصوله إلى البيت الأبيض: «سأكون رئيساً يعمل على توحيد الولايات المتحدة التي تعرضت لهزة بسبب حالة الانقسام... ولقد حان الوقت لتنحية اللغة العدائية جانباً والاستماع لبعضنا البعض وإنهاء حالة الشيطنة، هذا وقت التعافي ومداواة الجراح في أمريكا». وهاته اللغة الهادئة التي تدعو للتصالح تخفي ما يعانيه المجتمع الأمريكي من حالة التخندق والصراع التثويري داخل شرائح متعددة من المجتمع الأمريكي وما يعنيه ذلك من آثار مباشرة على الحياة اليومية للأمريكيين. ولعل أفضل مثال حي يمكن أن نعطيه عن مدى الانقسامات السياسية فى البلاد، هو قرار محكمة بولاية ويسكنسن الذي برأ الشاب الأمريكي، كايل ريتنهاوس.. فالقضية تعكس الانقسام الكبير في البلاد، إذ يعتبرها المحافظون فوزًا لمفهوم الدفاع عن النفس ويصفها الليبراليون بأنها فشل لنظام العدالة الجنائية... كما أن احتفال الجمهوريين بالقرار وسط غضب من قبل الديمقراطيين يعكس انقسامًا سياسيًا لا متناهيًا...
والقصة ترجع إلى 23 آب/ أغسطس 2020 ، عندما كانت الولايات المتحدة تشهد مظاهرات ضخمة ضد العنصرية وعنف الشرطة، سجلت اضطرابات كبيرة في هذه المدينة الواقعة في منطقة البحيرات العظمى بعد هجوم استهدف مواطناً أمريكياً من أصول إفريقية. في ذلك الوقت، كان كايل ريتنهاوس يبلغ من العمر 17 عامًا وقد جهز نفسه ببندقية نصف آلية من طراز إيه-آر 15 وانضم إلى جماعات مسلحة جاءت «لحماية» المتاجر وأطلق النار فقتل رجلين وجرح ثالثًا.
وقال خلال محاكمته: «لم ارتكب خطأ، لقد دافعت عن نفسي فقط»، مؤكداً أنه أطلق النار بعدما طارده هؤلاء الرجال الثلاثة وهاجموه...
ولكن المشكلة التي يمكن أن يستحضرها كل طلبة القانون في العالم هو أن كايل ريتنهاوس وضع نفسه طواعية وعن قصد في موقف الخطر بمعنى أنه جسد التجاوزات في حق الدفاع عن النفس...
ولعل تصريحات الرئيس الأمريكي الحالي والسابق عن هاته الواقعة تجسد نوعية الانقسامات داخل المجتمع الأمريكي؛ فيقول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إنه «قلق وغاضب»، لكنه دعا الأمريكيين في بيان إلى احترام قرار هيئة المحلفين. وقال «أدعو الجميع للتعبير عن آرائهم سلمياً مع احترام القانون» أما الرئيس السابق دونالد ترامب الذي سبق له أن دافع علناً عن ريتنهاوس، فإنه قال «تهانينا لإعلان براءة ريتنهاوس».
آخر الكلام: إن الانقسامات السلبية الدائمة داخل أي مجتمع هو منذر بغياب الثقة وهاته الثقة إذا لم تعد قائمة فإن التلوث سيصيب المجال السياسي العام مما سيؤدي إلى غياب الوحدة الوطنية في دول مثل لبنان أو إلى جعل الديمقراطية تفقد توازنها كما هو شأن الولايات المتحدة الأمريكية.