أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
أعني بالمسؤولية الكبرى، تحقيق رسالة المسجد في تربية الأمة الإسلامية؛ ليستفيد العامي فيتجه اتجاهاً راشداً في تصوره وسلوكه؛ وليستفيد العالم بمراجعة معارفه مادام إمام المسجد في مستوى المسؤولية العلمية، والنقاش لقاح العقول.. وهذه المسؤولية الكبرى تقتضي من دولتنا الكريمة نظرةً جديدة جذرية؛ بحيث يكون إمام المسجد وخطيبه مؤهلاً علمياً فقهاً وحديثاً وأصول فقه، مع الورع والولاء لله ودينه أولاً، ثم الولاء للدولة والأمة والرقعة؛ لأن ذلك داخل في النصيحة للمسلمين.. والسوية في النفس، والرزانة في العقل مطلب جوهري. قال أبو عبدالرحمن: وقد يقال: إن هذا مطلب عسير؛ لأن كوادرنا البشرية المؤهلة لا تفي بهذه الحاجة الشاقة، مع وجود آلاف المساجد.. وجوابي أن هذا ممكن في التخطيط المستقبلي؛ فتُغَطَّى كبريات المساجد بمن توافرت فيهم هذه الشروط، مع التحري الدقيق في البحث عن المؤهلين.. أما في المستقبل فلا بد من إعداد علمي في مناهجنا التعليمية كإعدادنا للإعلاميين. وهذا الهاجس يقلقني كثيراً؛ لأن تعطيل المساجد من الحلقات، ومن أئمة أكفاء يدعون إلى التي هي أقوم بالتي هي أحسن: غير مرغوب شرعاً، وهو خلاف هويتنا التاريخية؛ فكما كان المسجد مدرسة للصحابة -رضوان الله عليهم- في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم للتابعين من بعدهم: كان المسجد مدرسة للعلماء في بلادنا منذ أن تعاهد المحمدان (الإمام محمد بن سعود، والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله).. كما أن الفوضوية التي مرت ببعض مساجدنا منذ بضعة أعوام من جرَّاء خُطَبِ الفتنة أثرت تأثيراً شديداً في بعض عقول العامة، وفي أعشار المثقفين ثقافة شرعية؛ لأن تلك المنابر لم تقم على ورع، ولا على تمكن شرعي يحسن سياسة النصوص الشرعية، ويُعْملُها وفق مقاصدها بلا إسقاط، وأعني بالإسقاط إعمال نصوصٍ وإلغاء نصوصٍ.. يُضاف إلى ذلك مداخل إبليس الدقيقة اللئيمة من ناحية التوجهات السياسية التي حملها وافدون غير سلفيين، وكذلك نشوة الشهرة والشعبية والتجمهر.. وقد حفظ الله الأمر بهمة المسؤولين التي بلسمت الجراح ولم تهشم العظم، وحمت كل شِرِّير من شر نفسه، وأيقظت مكامن الخير والتقوى والورع عند الآخرين وفيهم المغرَّر به.. وعلى الرغم من هذا جَنَينا الثمار الرديئة المؤلمة للاستخدام السيئ لرسالة المسجد.. ثم كان التكفير بغير علم، وباستهجان، وتطاول على مذهب السلف.. وحقيقة مذهب السلف تصوراً وسلوكاًا يُفهم من الكلمة الجامعة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((على ما كنت عليه أنا وأصحابي))، وكان قتل النفوس المحرمة مع خطورة الأمر وشدة الوعيد الذي وصل إلى الوعيد بالخلود في النار.. إنني أضع بإيجاز بعض المعالم، وهي:
1- ضرورة تحقيق التأهيل العلمي وَفْق الاستطاعة فيمن يتولى رسالة المسجد منبراً وحلقة.. وهذا التأهيل هو ما يمكن تحقيقه من شروط الاجتهاد، وشروط من ينعقد به الإجماع عند الفقهاء والأصوليين.
2- تحقيق الهدف الإسلامي الكبير في التبشير وعدم التنفير، وهذا يحتاج إلى زكانة ورجاحة عقل، إضافة إلى التأهيل العلمي، وجماع الزكانة والرُجحان في تحقيق مبدأ المعادلة بين المفاسد والمصالح؛ فتُدفع المفسدة الكبرى بالمصلحة الصغرى بإهدار المصلحة الصغرى، وتستجلب المصلحة الكبرى بتحمل المفسدة الصغرى.
3- تحقيق المطلب الشرعي الآخر، وهو أن القيام مع القدرة؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم..))، وتأييد ذلك في استجابة الله -سبحانه- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- رحمة بالأمة في دعواتهم التي علَّمهم إياها ربهم آخر سورة البقرة.. وهذا المبدأ وجدناه في السيرة العملية؛ فكان يقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.. ولم يعلنها حرباً شعواء؛ لأن الله لم يُهَيِّئ له بعد الأسباب المادية للدفاع عن النفس.
4- بملاحظة الأمر الثاني والثالث آنفي الذكر يتحتم على العامة -دولةً، وعلماء، ومثقفين، ومفكرين، وعوامَ- أن يكونوا يداً واحدة؛ وأن يكونوا مسانِدين بكل جهد لدولتهم، والله ضمن لنا ألا يسلط علينا عدواً من سوى أنفسنا، وإنما أصيبت الأمة بأبناء جلدتها.. ومكاسب الأمن والرزق والوحدة في الرقعة والدين والأم مكاسب لن نصونها إن كان داؤنا فينا.. وقد رأوا بأم أعينهم تكالب الأعداء في الخارج على دولتنا، واستهدافهم لها إعلامياً؛ لأنها الرمز للمذهب الشرعي الصحيح المعتدل، ولأنها فوق الشبهة في كل ما يخدم مصالح المسلمين خاصة والإنسانية عامة، ولأن دفاعهم عن قضايا الأمة هو الأمر الحقيقي البارز مالياً وسياسياً دون مزايدة إعلامية.. وهي بكل طاقاتها ترى التيار الجارف فتتحاشاه رحمة بشعبها؛ لأن من سبح في التيار غرق؛ فكان كل شيء عندها رخيصاً في سبيل تجنيب الأمة الحروب الأهلية، وروائح التجزئة العفنة، والقيام بحق الله في تطبيق حقوقه، والقيام بحق الخلق في حفظ أديانهم ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم، ورد المظالم، وفصل الخصومات بمقتضى الشريعة.. على الرغم من الضغوط العالمية العنيفة التي تواجهها، وهذا -إن شاء الله- مصداق قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة)).. ولا يُقدِّر المسؤولية الكبرى لدولتنا إلا من قدَّر نعمة الأمن، ونعمة ما يصدق عليه اسم الرخاء بالمقارنة بالعالم الآخر.. وهل هناك أكبر من هذا الهم الذي نعيشه الآن في ملاحقة مجرمين (كانوا ضحية الجهل والتغرير والاختراق)، وها هي -بحمد الله- تتصيدهم واحداً واحداً.
5- أن الحرية مطلب إنساني كريم، ولكن المقدار من الحرية منحة من خالق الكون الذي يملك الحتميات في البشر ولادة ووفاة ووضعية حياة؛ فليس من حق أي إنسان أن يسقط حق الله باسم الحرية. لا بحرية تعبير ولا بحرية فعل.. والحرية مسؤولية دين وفكر، يليها الالتزام لإيجابية الدين والفكر، وهذا حاصلٌ بحرية الجماعة المعتَبَرة؛ وذلك حينما يكون القرار مرهوناً بمشورة ذوي الأهلية، وهم علماء الشريعة في إظهار حكم الله في الواقعة، وعلماء الشؤون الدنيوية وذوي الخبرة في إظهار حقيقة الواقعة وإبراز منافعها أو مضارها، وهذا موجود -بحمد الله- في مجلس الشورى، وفي الاستشاريين بكل وزارة أو مصلحة، وبالأنظمة الإدارية التي تبدأ مشروعاً وتنتهي متوَّجة بمرسوم في حضانة المشورة، وغربلة ذوي الخبرة.. وموجود أيضاً في مجالس المناطق، وفي أعيان العشائر والبلدان الذين تغص بهم مجالس المسؤولين.
6- أنه لا يجوز الافتئات على الدولة المسلمة لا من قبل فرد ولا جماعة، وعدم خلط الأوراق في أحكام دين الله.
7- أنه سيخرج من المسجد علماء في الجوهر، إعلاميون في الوسيلة: يحسنون التعامل مع الآخر، ويبرزون صورة المسلم المتبع لدين ربه على وجه الحقيقة؛ فتزول بالتدريج غيوم الشُّبه والأكاذيب التي ألحقت بديننا، والله المستعان.
-عفا الله عنه-