د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
وُلد في خريفٍ مطيرٍ، وكاد يهلكُ مع والدته في شتاءٍ ربيعيٍ؛ فقد أضاعت -حفظها الله- مخيمَ الأسرة طيلة ساعات النهار بعدما أرادت التجوالَ القصيرَ خارجه، وأقلقها الصبيُّ ذو الأشهر الخمسة ببكائه المتواصل التماسًا لشربةِ ماءٍ أو رشفة حليب، و»موضي» ذاتُ التجربة الأولى في الأمومة منهكةُ القُوى من السير فوق رمال الغميس وبين أشجار الغضا، ومملوءةٌ خوفًا في تيهٍ لا تعلم مصيرَه، والسياراتُ تجوبُ الأرضَ المعشبة صعودًا نحو قمم الكثبان وهبوطًا نحو رياضها، ولم يُجدِ البحثُ المُضني عنهما حتى كاد اليأسُ يواري آمالَ ذويهما.
** قيّض الله بدويًا كريمًا رأى الأم ذات الستة عشر ربيعًا وطفلَها التائهين فاستفهم واستوصف وعرف المكان وأبلغهما مأمنَهما، وما تزال الوالدةُ تتمنى لو عرفته لتكافئه كما ظلت تدعو له وما تزال، ومتاهاتُ الصحاري، مهما دنت، مؤرقةٌ لمن يسمع عنها أو يفكرُ بها فكيف بمن عاشها أو يعايشها!
** استقبل الحياة بمطرٍ غزيرٍ أسقط بيتًا طينيًا بجوارهم، وكان ممددًا وسط منزلهم في أشهره الأولى، فنقلهم والده رحمه الله إلى بيتٍ أكثر أمنًا، وبقيت حكاياتُ المطر والربيع مرتبطةً بمعنى الحياة، وإذ لم يعِ أحداثها المقلقة فقد أحيتْ لديه ذاكرة السحاب والخيمة وإرادة البقاء، ومعها، بل قبلها وبعدها أجملُ من في الدنيا، وهل غيرُ الوالدين!
** لم تعدْ للتفاصيل الصغيرة قيمتُها الكبيرة، واختلفت الحكاياتُ بين الأجيال، وقد نجدُ ما نودُّ قصَّه لجيل أولادنا فلا نلقى مُصغين، وربما حكى آباؤنا وأمهاتنا حكاياتٍ فلم نألفْ إيقاعَها، أو روى أحفادُنا فلم نتبينْ مواقعَهم، ويأسفُ من لم يُنصتْ لذوي الخبرة ولذوي التطلع ولو بدوا غيرَ مؤثرين، وقد نُنفقُ من أوقاتنا على هباءٍ لا نعي أنه غُثاء.
** نعودُ للمطر والخيمة والرمل؛ فهي نغمتنا التي عزفناها، ولوحتُنا التي رسمناها، وموسمنا الذي نرقبُ ماءَه وسماءَه، وهجيرَه وظلالَه، وفي وقت الصِّبا كانت السيارةُ المؤجرةُ لنا تأخذنا نحو المخيم بمؤونة يومين أو ثلاثة، وتعيدُنا في الوقت الذي حددناه لسائقها، وكان التواصل بين المخيمات المتقاربة حميمًا، وتبادل المنافع بين شبابها جميلًا؛ فمن ينقصه شيء يُكمله ممن حوله، ومن يخدم غيره اليوم يجد المقابل في الغد.
** بين هذه المواقف الثلاثةِ ثقافةٌ مجتمعيةٌ رائدةٌ؛ ففي الأولى سُخرت لإنقاذ الأم والطفل سياراتُ العم إبراهيم بن حمد الفرج (حَبَوْدل) - توفي عام 1406هـ رحمه الله- وهو من رجال الوطن المعروفين في مرحلة التأسيس، وإن لم ينلْ حقَّه من الاحتفاء، وفي الثاني تيسر الانتقالُ إلى بيتٍ بديلٍ دون كبير عناء، وفي الثالث أشبهت الصحراءُ مدينةً عامرةً فلا خوف من نقص غذاءٍ أو دواءٍ أو ماءٍ أو كهرباء.
** اليوم لا يكاد الجارُ يعرف جارَه، ولا الصبيةُ أعمامَ والدِيهم وأخوالَهم، ولا الأقاربُ بعضَ أقاربهم، وأصبحت بيوتُنا قلاعًا لا يغشاها إلا أدنى الأدنين، وللزمن عجائبُه، ولناسِه تبدلاتهم.
** المحبةُ قيمةٌ تتضاءل.