د.خالد بن رشيد العديم
لعل عدم تسليح طلاب العلم وطالباته بما تبرأ به الذمة، وتزويدهم بالحد الأدنى من المنهاج والطريقة في البحث والسبر أعوزهم للمتربصين خارج أسوار الجامعات وصروح العلم، فراجت سوق ظاهرها رحمة، وباطنها الخراب، فتعيق طلاب العلم جيلا بعد جيل من التفكير، لتكبلّه من تخضيع كل ادعاء لصرامة الاختبار، فتجلي واقعا تعيسا.
من فقد المنهاج والطريقة تفكيرا وتطبيقا فقد أعيق؛ إن أدوات البحث هي أدوات تمحيص التفكير، وهي لب التعليم، إن التعليم ليس تلقيناً، بل التحليق بعقل جميل بين رياض العلم، فينة راتع وفينة سائل، فيسأل السؤال البديع، قد فلق من ذي عقل ناشط نشيط، ونفس تواقة بفضل العلم تهيج، وجنان فاضل بفضول العلم مدفوع.
فثمة فرق بين نقل المنقول على أنه المعلوم، وبين تعريض كل مقول للاختبار صرامة، فما الظن بأمة تخرّج ابناءها وبناتنا من صروح العلم وهن في الوطن حواضن؛ حاضنات من ببقاء عقله بقاء أمة جيلا بعد جيل، إنه مُحكم التنوير، تنوير عقل لطالما حار وجال، إن المسألة ليست بحثاً يُنجز، أو مناقشة بها مماحكة للباحث، تستعرض بها المعارف الغوائب عن عقل صغير للتو لسلم العلم صاعد، إنما المسألة تشغيل عقل وتحريك فكر راكد، والتفنن في طرح الأسئلة، ونقد المعلوم الحاضر، والجرأة على التشكيك بالمعلوم إن صدر من إنسان وإن كان عاقلاً، فكل قول غير قول صاحب القبر صلى الله عليه وسلم غير ثابت ولا لازم، فالخطأ يتغشى من الأقوال ما يتغشى، ليس ثمة قول لناصب، فالكل قوله للنقد طالب، إن القول كله ادعاء ما لم يثبت بمنهاج صارم، ليس بفارس من عجز عن حمل الصارم يوم اللقاء، إذ الشِفار والهند تلتحم تتخطاه الفرسان شفقة لضعف ظاهر، ليس ثمة شرف في طرح الصعلوك، والفرسان في الميدان طوالب، يوم اللقاء إن الفارس للفارس نده، الكل للمجد طالبه، يوم اللقاء سوق الفوارس فيها العارض والطالب، من طلب المجد بصرع الند للند عرض النفس، وهن عوارض، من يعجز عن اللقاء متسلحا بأداة بحث وفلسفة ومنهاج وطريقة للسبر ليس بباحث، وإن حمل البحث اسمه، فقد خُفِي اسم من أنتجه، إن فنّ الإخفاء ليس به للفكر والبحث إضافة، قد استقر الرأي والعرف: إن البحث للمنتج وليس للحامل، في القرآن وصف حامل الأسفار وقد قصُرَ دون المضمون علمه.
قد عجّ بالسوق من ادعى أنه للطالب وللطالبة خادم، وهو خادع، والحجة أن طالبة العلم وطالبه قد تركا من غير تمكين من المعرفة «نظرية»، ومن الكتابة مهارة، ومن تمحيص وفحص الادعاء العلمي منهاجاً وطريقة. لا أقام الله سوقاً للأبناء والبنات خادعة، ولا أقام الله سوقاً عطّلت عقولاً فلا نضجت ولا تركت، ولا أقام الله سوقا باسم المساعدة من المال قبضت، ولا أقام الله سوقا باسم الطالب والطالبة كتبت؛ وحللت؛ وتصرفت؛ وبالنتائج زجت ونثرت، ولا أقام الله سوقاً عن منافذ النشر أسماء عارضيها حجبت، عار على من لم يفكّر؛ ويسأل؛ ويكتب؛ ويجمع البيان والمصدر؛ ويحلل؛ ويناقش النتيجة؛ ومنها يختم؛ فيوصي؛ ولتعميم النتيجة يحدّ ويقيّد، إن رأى اسمه على الإنتاج يلمع، وباسمه نتائج استطلاع أو استبيان تصدع، وليحيا من أبى إلا أن يكون المزجوج باسمه نتاج فكره وعمل يمينه، تحيا بحياته وبجمال عقله وبمنطق تفكيره أمةً خالدة. من استحضر قوله تعالى: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (ق 18)، خشيه بالغيب، فالكل مسؤول، «وَقِفُوهُمْ . إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ» (الصافات 24). هدى الله من تاجر بتعليم وتجهيز العقول.
** **
أستاذ المحاسبة المشارك - مدير مركز البحوث - جامعة الملك سعود