د. تنيضب الفايدي
تعد اللغة العربية إحدى اللغات العالمية الرسمية الست (الإنكليزية والصينية والإسبانية والفرنسية والروسية والعربية)، وفي إطار دعم وتعزيز تعدد اللغات وتعدد الثقافات في الأمم المتحدة، اعتمدت إدارة الأمم المتحدة لشؤون الإعلام قراراً عشية الاحتفال باليوم الدولي للغة الأم الذي يُحتفل به في 21 شباط - فبراير من كل عام بناءً على مبادرة من اليونسكو، للاحتفال بكل لغة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة. وتقرر الاحتفال باللغة العربية في 18 كانون الأول - ديسمبر من كل عام كونه اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة 3190 (د-28) المؤرَّخ 18 كانون الأول - ديسمبر 1973 وقرَّرت الجمعية العامة بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، وتم تفعيله في الأعوام اللاحقة.
والهدف من هذا اليوم هو زيادة الوعي بين موظفي الأمم المتحدة بتاريخ كل من اللغات الرسمية الست وثقافتها وتطورها. ولكل لغة من اللغات الحرية في اختيار الأسلوب الذي تجده مناسباً في إعداد برنامج أنشطة لليوم الخاص بها، بما في ذلك دعوة شعراء وكتّاب وأدباء معروفين، بالإضافة إلى تطوير مواد إعلامية متعلِّقة بالحدث.
إن اللغة العربية هي أداة الاتصال ونقطة الالتقاء بين العرب وشعوب كثيرة في هذه الأرض، أخذت عن العرب جزءاً كبيراً من ثقافتهم، واشتركت معهم قبل أن تكون (اليونسكو). فاللغة العربية من اللغات التي تتحلى بدرجة من النضج الذي يجب أن تتسم به أية لغة لأداء دورها المنشود في مختلف ميادين الحياة فهي صالحة أن تكون لغة عالمية. وأكبر دليل على ذلك قدرتها على التعبير عن مختلف معطيات حضارتنا العربية والإسلامية على مرّ قرون خلت حتى يومنا هذا، يضاف إلى ذلك أن اللغة العربية حظيت في طور من أطوار الحضارة العربية الإسلامية بانتشار عالمي واسع جعلها في مقدمة اللغات السائدة عالمياً في تلك المرحلة.
إن اللغة العربية هي اللغة الأم لأكثر من 270 مليون شخص حول العالم حتى الآن، ولذلك صنفت في المرتبة السادسة في ترتيب اللغات الأكثر استخداماً، مما يعني أنها لغة حيَّة قادرة على النهوض بالأمة العربية متى استشعر أبناؤها قيمة هويتهم العربية واعتزازهم بلغة القرآن الكريم.
إن اللغة العربية.. لغة الوحي، لغة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذه اللغة التي أصبحت فضلاً عن معناها الديني وقيمتها في ترسيخ الهوية الإسلامية والانتماء لهذا الدين العظيم، رمزاً لجمال الحرف، وأناقة الكلمة، ورشاقة التعبير، شهد بهذه الحقيقة العلماء العارفون باللغات والمتذوّقون لجماليات الكلم عرباً وعجماً. ففي كل يوم تزدهي اللغة العربية اختيالاً وفخراً بحلل من روائع الكلم، ودرر من رونق البيان، بفصاحة وبلاغة ترهف الآذان من حسن بديعها وعمق معانيها ووضوح بيانها، جمال مطرز بأكاليل ميزتها عن غيرها من اللغات.
يلاحظ المرء كيف استطاعت العربية أن تكون أداة لكل ما ترجم من علوم الفرس والهند واليونان وغيرهم، بل لقد كانت صورة مشرقة للحضارة الإسلامية في عهود الأندلسيين، إذ غدت اللغة الفريدة التي تمتلك نواصي البيان والإبداع، فانطلق الطلاب والمثقفون الأوروبيون يتعلمون العربية، ويتكلّمون بها، بل اتخذوها ترجماناً لمشاعرهم وعواطفهم، وذهبوا يتأنقون في دررها وكنوزها وأساليبها البلاغية البديعة.
لقد تأثر العلماء الأجانب قبل العرب في أهمية اللغة العربية، يقول الفرنسي (إرنست رينان): اللغة العربية بدأت فجأة غاية من الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر؛ فليس لها طفولة ولا شيخوخة.
في عهد الأندلسيين الزاهر لغة وحضارة وثقافة كان الأوربيون يتوافدون على تعلم اللغة العربية والإفادة مما وصلت إليه من حضارة وازدهار حتى سجل أحد قساوسة النصارى مشاعره المفعمة بالأسف والحسرة على توافد الأوروبيون في تلك الحقبة على تعلم اللغة العربية، حيث يقول: «وآسفاه.. إن الجيل الناشئ من المسيحيين الأذكياء لا يحسنون أدباً أو لغة غير الأدب العربي واللغة العربية، وإنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلى الأثمان».
لقد فهم الأسلاف حقيقة جوهرية وهي أن كيان اللغة وخلودها مرتبط بالدين الخالد، إذ هي الطريق إلى فهم الدين ومعرفة أسرار التشريع، يقول الشيخ ابن تيمية - رحمه الله-: «إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجبٌ، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».
كما أن اللغة العربية هي العلاقة الوثيقة التي تذوب أمامها اللهجات المحلية لأقطار العالم العربي، إنها لغتنا التي تستحق أن يخصص لها يوم يحتفى بها فيه، وتبرز فيه محاسنها وآثارها، وتدارس فيه هموم تعليمها وتعلّمها.
وهذا يجعلنا أن نعرف مسؤوليتنا تجاه هذه اللغة التي اختصها الله سبحانه وتعالى أن تكون لغة القرآن الكريم، حيث لا بدّ لكلّ منّا ، سواء كان متخصصاً بعلوم العربية أم ليس كذلك، من أن يحتفي بطريقته الخاصة في هذا اليوم، فيراجع نفسه ويتأمل في حاله: ماذا فعلت خدمة للغتي؟ كيف أسهمت في تطورها؟ ولكل طريقته الخاصة في الاحتفاء، فهناك من يحتفي بأنه أنجز دراسة، وهناك من علم طلابه بأسلوب فصيح، وهناك من ترجم لها أو منها، وهناك من زرع حبها في نفوس الآخرين.. إن الفعاليات في هذا اليوم ينبغي ألا تكون جنائزية على حال العربية وحال أهلها ولا أن تكون طرباً ببلاغتها وتغنياً بمجدها الماضي، ينبغي أن يكون الاحتفاء احتفالاً بإنجازات حالية وتخطيطاً لإنجازات قادمة واستشرافاً لمستقبل مشرق.
إن اللغة تضعف ثم تموت إن لم يحيها أهلها، وذلك بتطور هذه اللغة والتجديد في قضاياها، والاستفادة من خطوات الأمم في إحياء لغاتها والمحافظة عليها من الانزواء بعيداً حتى لا تموت، خاصةً تلك اللغات التي اليوم تتسابق الأمم إلى تعليمها لأبنائها للحصول على أكبر قدر من المعرفة ولدراسة العلوم غير المتوافرة إلا عبرها. فاللغة كائن حيّ إذا أهملت تغذيته بما يبقيه حياً مات واندثر، واللغات التي تنقرض اليوم في العالم لا حصر لها إما لانخفاض أعداد المتحدثين بها أو لأنها لم تعد لغة حضارة تتفاعل مع لغات العالم المقدمة لحضارته الحديثة، ولغتنا العربية لا تزال من اللغات الحيَّة لكثرة الناطقين بها، ولكن دعونا نتواضع لنقول: إنها أخذت تفسح المجال لغيرها في ساحات العلوم والفنون، لتنزوي بعيداً في حضارة العالم اليوم، ولن يعيد لها الوهج مثل هذه التنظيرات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولنبحث عن جهود علمية حقيقية لإحياء هذه اللغة مرة أخرى لتكون لغة المعرفة والعلم، يقوم بها الأكفاء المتخصصون في اللغة والاجتماع وعلوم أخرى حتى التقني منها.
ولا بأس يوم في السنة لنحتفل بلغتنا العربية، ولكن لنتفق على أننا نحتاج كل يوم للمحافظة على ثقافتنا العربية، وأن نعمل على تنمية مهارات معلمي اللغة العربية بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الحالية والمستقبلية، من خلال تطوير الممارسات التدريسية، وتكريس ثقافة العمل التربوي النوعي، وفق أحدث التوجهات التربوية الحديثة في تعلّم اللغات وتعليمها.