د. عيد بن مسعود الجهني
عندما علم بعض الصحابة رضي الله عنهم عقوبة أخذ المال الحرام سواء من المال العام أم من عامة الناس استعفوا من الولاية واعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبولها لخوفهم - على رغم قوة إيمانهم - أن يلحقهم بعض من الغلول فقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذرهم ومنهم أبو مسعود الأنصاري الذي قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك ببعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال إذاً لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذاً، لا أكرهك) رواه أبو داود.
وفي زماننا هذا تعددت صور الفساد الإداري والمالي ومنها على سبيل المثال لا الحصر الرشوة والمحسوبية والاستيلاء على المال العام والاختلاس والتزوير والاحتكار، والنصب والاحتيال، والغش والتدليس وجرائم غسل الأموال وغيرها.
أصبح الفاسد يعتبر فساده فخراً واعتزازاً وشهامة ورجولة، يعترف بها جهاراً نهاراً ليس بين رهط من البشر فحسب بل من خلال وسائل الإعلام مقروءة ومسموعة ومرئية كالقنوات الفضائية.
الفاسد الحياء غادر وجهه بعد أن تلطخت يداه بالرشوة واستغلال سلطة المنصب، وحتى بين أسرته وبني عمومته يعترف أنه فاسد عبد للرشوة والاختلاس والنصب والاحتيال.
هذه الحال المزرية ظاهرة للعيان في بعض دولنا العربية، وكما يقولون من البلية ما يضحك، فلبنان مثلاً الذي كان رمزاً للأمن والاستقرار أصبح اليوم موطناً للنزاعات والصراعات الداخلية على السلطة يقودها حزب الله فبلغ ترتيبه في قائمة الفساد (149).
العراق امتلأت جيوب الكثيرين بأموال الشعب الذي تحولت ثروته من نفط وغاز وغيرهما من الخيرات من نعمة إلى نقمة لتحط رحالها في حسابات بعض الفاسدين وهم كثر للأسف، ولذا بلغ ترتيب العراق بعد الاحتلال بين دول العالم طبقاً لتقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2020 المرتبة (160) وهذا الرقم يبرز أن بلاد الرافدين في مقدمة الدول الأكثر فسادًا في المنظومة الدولية.
ولأن النزاعات والصراعات والقلاقل الداخلية بل والحروب يخرج من رحمها فساد مستطير فليبيا مثلاً (171) والسودان انتزع الرقم (174) واليمن (176) أما بلاد الشام التي تعيش حربًا ضروسًا يشنها رئيس النظام في ذلك البلد الشقيق ومعه إيران وحزب الله وروسيا وتركيا ولا تتخلف أمريكا عن اقتسام اللقمة لذلك أصبح الفساد رقمًا قياسيًا (178) يليه الصومال الذي لا يقل حاله عن كل من العراق وسوريا واليمن.
والنتيجة الحتمية لهذه الغابة من الفساد في تلك الدول تحطم قواعد الاقتصادات وزيادة حدة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة وانتشار البطالة والفقر والجوع وانتشار الأمراض مع انعدام الخدمات الصحية، ناهيك عن تأثر قافلة التعليم وزيادة الأمية بين السكان.
وعلى الجانب الآخر تنهار قيمة العملات وتصبح لا تساوي قيمة الورق الذي طبعت عليه، فلبنان مثلا دولار واحد يساوي أكثر من (20) ألف ليرة وزميلتها السورية بحدود (4) آلاف ليرة وفي بلاد الرافدين حوالي (1500) دينار للدولار الواحد واليمن (600) ريال وليبيا (4.58) دينار للدولار والجنيه السوداني (437) للدولار الواحد، وهذا يبرز مدى ما يعانيه المواطنون في تلك الدول من مآسي المعيشة.
اليوم أصبحت الرشوة واستغلال المنصب والاختلاس كلها ظاهرة لا تخفى على ذي بصيرة بل لا تخفى حتى على الأعشى، ولذا فإن أمور الناس أصبحت لا تقضى إلا برشوة أو محسوبية.
أرأيتم إلى أي حضيض بلغنا وإلى أي درك وصلنا؟
الفساد طغى على مناحي الحياة كلها في الدول النامية والمتخلفة، والأسوأ أنه يستشري كل عام ويتمدد ويضرب بجذوره عميقاً في الأرض حتى أصبح عصياً على الاقتلاع وأصبح البعض مجبورين على ابتلاع ثمرته المرة رغم أنوفهم، فالفاسدون قد غلظت قلوبهم وأصبحت قاسية وماتت ضمائرهم فما عادوا يرون الحقائق {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46).
إن الفاسدين في زماننا هذا خاصة في الدول التي شهدت ثورات تحولت إلى فساد غير مسبوق في ظل القلاقل والنزاعات الداخلية والتدخلات الخارجية التي تشهدها تلك الدول ومنها العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن فأصبح العديد من المتنفذين فوق القوانين وكثيراً ما يحمي أحدهم نفسه بدخول (البرلمان)، أو (المجلس) أو (لجنة) ليسرق تحت حماية ما يسمى (بالحصانة) وهذا المحمي بالقانون وبالحصانة لا يكتفي بالسرقة وحده، بل يظل (يفرخ) عشرات بل مئات من المفسدين من أهله وأصهاره وأصدقائه الذين يسرقون محميين بسلطته.
اليوم أصبح الفساد جريمة بلا عقاب شاخصًا بقامة عالية من الناس يسير بينهم كظلهم وأكثر من يعاني من ثالوث الرشوة والمحسوبية والواسطة الخطير عامة الناس وخاصة فقراءهم فلا يملكون مالاً يدفعونه لرشوة ولا ظهراً يشدهم لتقضى مصالحهم البسيطة لتبقى معطلة وحقوقهم متعثرة وأبناؤهم عاطلين عن العمل.
هذا لأن البعض ممن يملك السلطة والنفوذ الإداري والمالي ما إن يتقلد المنصب حتى يعيث فساداً مستغلاً سلطته ليوزع الفرص الوظيفية بين أهله وذويه وربعه ومحبيه وأصدقائه المقربين، أما المستحقون فعلاً وأكثر مؤهلات وخبرة فلهم رب العباد.
ولكي تحد الدول من غوائية الفساد ولا نقول القضاء عليه، فهو غول كاسر، لا بد من تعاون السلطات الثلاث في الدول وهيئات الرقابة السابقة واللاحقة، وبالطبع الجهات المسؤولة مباشرة عن تتبع قضايا الفساد كهيئات الفساد واللجان التي أسست من أجل مكافحته، ويأتي دور الإعلام المرئي والمسموع والمقروء ليأخذ دوره معيناً للدول والمنظمات والهيئات المسؤولة في المقام الأول عن تتبع بؤر الفساد والانقضاض عليها لترد ما سرق وتطبيق العقوبة.
ويبقى القول إن جميع السلطات إذا لم تشمر عن سواعدها لمحاربة الرشوة والمحسوبية والواسطة فإن الكارثة ستكون فادحة بسبب أنياب وأظافر الفساد التي تعتبر أشد فتكاً من أنياب الوحوش المفترسة.
والله ولي التوفيق.