حسن اليمني
الرياض، وفي بزوغ الصباح بداية شتاء يظهر بخجل وحركة السير ما زالت تتثاءب تشعر وكأن الشجيرات التي تتناثر على جانبي الطرق والشوارع نبت ميلاد جديد, ميلاد أخضر يصارع شِهب التراب والرمال فيظهر الامتزاج كأنه المخاض بين الماضي والمستقبل أو اليُبس والليونة, فيا ترى هل ستتغيَّر بهذا التغيّر الأنفس والأمزجة؟
«مترو الرياض» هذا الذي يخرج لك بين حين وآخر وكأنه مصاحبك في مشوارك ينظر إليك من علو ثم يختفي تحت الأرض أحياناً فيغيب عن النظر, بادلته أكثر من مرة بنظرات حائرة تتساءل بلهفة وشوق متى نلتقي؟ أحياناً يبتسم لي وكأنه غيداء يافعة تتعلَّم لبس الشال بمزيج من الحياء والابتهاج، وأحياناً أخرى يبدو كسيارة تركت الطريق ودخلت ورشة سمكرة تجلده يد مفتول عريض المنكبين من جانب وهو يتصدع من جانب آخر, وفي أحيان أخرى أشعر وكأنه يطلق زفرات أسى بكآبة وخمول.
من يصعد للوجود أولاً, تلك الشجيرات التي تساير الطرق والشوارع والميادين والتقاطعات أم قطار المشوار كما أحب أن أسميه, والأسئلة تتزاحم في عين الناظر لعلامتين جديدتين تبزغ في الرياض لتغيّر ملامحه إلى الأبد.
سأتخيل نمو الشجر الأخضر وهو يحول أميرة الصحراء إلى ترابط قرى في غابة حتى يشعر من قدم إلى الرياض عبر الطرق البرية إلى الداخل وكأنه جاء من مضارب بني عبس إلى بوستن المنغمسة داخل غابات من الأشجار العملاقة, وسأتخيّل حركة القطارات التي تتسلسل عبر مساراتها فوق الطرق والشوارع وتلك الحافلات التي تنتظر في الأسفل لتنقل الرجال والنساء بمختلف الأعمار إلى داخل الأحياء وتعود محملة بآخرين جدد وكأنها تنقل الرياض من التاريخ عبر بوابة دخنة إلى المستقبل بالبطاقة الممغنطة.
مؤمن بأن لون الشجر حين يهزم شهب التراب سيفترس عنجهية بعض الأنفس ويهذب سلوكها ومؤمن أيضاً أن حيوية مسارات القطار ستغرس الجدية والألفة في السلوك بين الناس, تلك أمور خفيَّة لا يلمس أثرها أو يتحسس فعلها في النفوس إلا حالم لكنها في علم النفس الاجتماعي كيمياء فسيولوجية تصنعها طبيعة العلاقة بين الإنسان وأدوات حياته.
الشجرة إن حظيت بالرعاية والاهتمام ستنمو مثل الرضيع الذي يبهرك في سنوات قليلة بحيويته المفعمة ودام أن الخطوة بدأت فالفال أخضر, أما قطار المشوار فقد شابت فيه الآمال والأحلام حتى أصبح مثل أمل الفوز بكأس العالم في كرة القدم, أحزن كثيرًا حين أمر بجوار إحدى المحطات وهي في حالة إنشاء خامد وأحزن أكثر حين أرى بعض محطات الحافلات وقد بليت بفعل الانتظار وتوشك أن تتحول إلى أطلال.
حين يسير القطار وتتحرك حافلات النقل ستشتكي محطات البنزين من جفاء السيارات التي تزدحم بها اليوم وسيجد جهاز السير فسحة من الوقت لإعادة هندسة الطرق والشوارع بدل الانشغال طول الوقت بحساب المخالفات وربما تنخفض ساعات العمل بالهدوء الملحوظ في سير المركبات عبر الطرق والشوارع لنزوح كثير منها إلى مواقف محطات القطار, وستغيب مركبات كثير من الوافدين عن الطرق والشوارع لتبديل قيمة البنزين إلى تذاكر قطار المشوار, ثم وأجمل من هذا وذاك سنرى الطلبة والطالبات وهم يتجهون لمحطات القطار أو حافلات النقل للذهاب والإياب من المدارس ليخلق بذلك حيوية في مجتمعنا الذي كاد ينسى حميميته الاجتماعية التي لا تنمو ولا تنشأ إلا بنشاط الحركة في الهواء وتحت الشمس بعد أن أخفتهم المركبات المتعجلة وكأننا نسير داخل صناديق حديد مغلقة فلا تجد في الطرق والشوارع إلا سيارات ومجتمع مركبات لا بشر, فكانت النفوس مضجرة منغلقة على ذاتها.
وسائل الحياة لها أثر على الإنسان والمجتمع, ولو كانت الأمور بالتمني لتمنيت أن تزرع الشجرة ويسير القطار في كل مدينة وقرية وهجرة في بلادي، بل وأن يختفي التراب الأشهب تحت الغصون الخضراء وتصبح القطارات مسارات للتواصل ولكن كيف والرياض ما زالت منذ سنوات تتحفز للانتشاء حتى ملّت الصبر والانتظار.