حمّاد بن حامد السالمي
* رضي الله عنك يا عمر بن الخطاب؛ يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم قلت على نهج النبوة وقولك الحق: (رحم الله امرأً أهداني عيوبي). اليوم وبعد مئين من السنين أسأل: ماذا بقي من (هدايا المرحوم)..؟ بل كم من مرحوم بقي بيننا ليهدينا عيوبنا..؟ وما أكثرها.
* ظلت هدايا المرحوم طيلة قرون وقرون؛ وهي تُنشء وتبني في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. ترتق ما تَخرّق من علاقات فردية، وتوصل ما تفتّق من أواصر قربى بين أسر وجماعات، وتشد من عزم ذوي الرأي الصائب، وتنبه من غفل عن عائب، أو ركن لرأي غير صائب. منذ نعومة أظفارنا؛ ونحن نعيش أجواء يسودها الحب والتواد، وتخيم عليها أجواء النصح والإرشاد. نصح في خير، وإرشاد إلى طريق الرشاد، الذي يأخذ أصحابه إلى النجاح في حياتهم، والمحبة ممن حولهم، حتى عُدّ عدم النصح في عرف الناس مما يُعاب، فقد كان كثير من النُّصاح المخلصين؛ شركاء في نجاحات فردية وجماعية في جماعاتهم وبلدانهم. قيل لأحد العلماء- وقد اعتزل الناس وكان منطويًا عنهم- لِمَ امتنعت عن المخالطة..؟ فقال: (وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي)..؟! ألا.. ما أكثر هذه الهدايا التي كانت تُتداول بين جار وجار، وصديق وصديق، وأب وأم، وأبناء وبنات، وكبير وصغير، وحاكم ومحكوم، على مختلف المكانات والمستويات. ذلك أن (المؤمن مرآة أخيه)، و(صديقك من صدقك). فمن هذه الهدايا التي لا تقدر بثمن؛ نصح خالص من كل شائبة، لا يفشي سرًا، ولا يشمت بمنصوح، ولا يضر بالغير. قال الإمام الشافعي رحمه الله:
تعمّدني بنصحك في انفرادي
وجنّبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع
من التوبيخ لا أرضى استماعه
* لو تحدثنا عن مجتمعنا السعودي الذي عرفناه بكل مناطقه وطوائفه؛ لوقفنا على صور مبهرة من التهادي بالنصح الشارح، والنقد غير الجارح. صور خلدتها مجالس الحُكّام وصراحة المحكومين. تقليد بديع على نهج النبوة ومروءة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقد كان هذا نهج مؤسس هذه البلاد وموحد كيانها (الملك عبد العزيز آل سعود) رحمه الله. كانت مجالسه واستقبالاته لمواطنيه على مختلف مستوياتهم، نصح وإرشاد ومشورة، يَسمع من الجميع، ويُسمع الجميع، وكان هذا دأب أبنائه الملوك من بعده حتى يوم الناس هذا، فهذا (خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز) نصره الله، يقول في حفل تدشين مشروعات (الطائف الجديد) في شهر محرم 1438هـ: (أبوابنا مفتوحة، ورحم الله من أهدى إليَّ عيوبي.. إذا رأيتم أو رأى إخواني المواطنون- وهم يسمعونني الآن- أي شيء فيه مصلحة لدينكم قبل كل شيء، ولبلادكم بلاد الحرمين الشريفين، التي نحن كلنا خُدّام لها، فأهلاً وسهلاً بكم. وأكرر: أبوابنا مفتوحة، وهواتفنا مفتوحة، وآذاننا صاغية لكل مواطن، وشكراً).
* إن هذا النهج السلماني في التناصح بين الحاكم والمحكوم؛ نهج مستمد من سيرة أب ملك، وأبناء ملوك من بعده، بنوا وشادوا بالرأي وقبول الرأي الآخر. وعرفنا من صور هذا النهج القويم؛ ما سار عليه أمراء المناطق وقادتها في كل الجهات، ومن وسائل الإعلام كافة.. صحافية وإذاعية وتلفزية عدة عقود، فقد كانت الصحف الورقية قبل زمن انحسارها؛ تشكل همزة وصل بين الدولة والمجتمع، وكان محرروها وكُتّابها؛ ممن يحمل الهم العام، ويهدي لهذه الجهة وتلك عيوبها، مع بيان محاسنها، حتى عُدّ النقد الصحافي وقتها؛ شريكًا في البناء والتنمية. وقد قابلت وعرفت في مشواري الصحافي من قياديي ومسئولي الدولة؛ كثيرًا ممن يفرح بمثل هذه المكاشفات والمناكشات، التي تدعم توجه إدارته للتطوير والتغيير، بهدف تقديم خدمات راقية لطالبيها من المواطنين.
* دفعني إلى الكلام على التناصح؛ ما نلمسه اليوم من تحاكم الأفراد والأسر وغيرهم؛ إلى ما يُنشر ويبث عبر وسائل ووسائط إلكترونية بشكل طاغٍ، حتى وصل الأمر إلى الأخذ بنصائح من مجهولين نكرين، وشركات منتفعة، وجهات مشبوهة، تقدم نصائح تتعلق بصحة الإنسان، وتجارته، وحياته، وثقافته، وعلاقاته مع أقرب الناس إليه، مع ما في ذلك من أضرار جسيمة لا يدركها معظم المتلقين. وكذلك ما بدا لنا في أيامنا هذه؛ من ضيق وحساسية من النقد السليم، الذي يُفترض أنه يأتي من باب التقييم والتقويم، سواء على مستوى الأفراد، أو الجماعات، أو في صميم العلاقة بين جهات خدمية حكومية وأهلية؛ وبين المعنيين من هذه العلاقة من المواطنين، حتى يصل الأمر بالبعض؛ إلى ردهات المحاكم. إذا أتت النصيحة من ناقد في مجلس أو صحيفة أو وسيلة إعلامية- وكانت خالصة نقية من كل شائبة- ينبغي أخذها من باب الهدية التي حث عليها خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما إذا داخلها نفاق أو خداع، أو غش وفحش، أو تحريض وتعريض، وتشهير وتنفير؛ فهذا مبغوض مرفوض، ونقف مع من يرفض ويطالب بحقه وفق الطرق المتاحة.
* رحم الله من يتطوع فيهدينا عيوبنا، من ناقدين في صحيفة سيارة، أو كلمة متلفزة ومذاعة، أو مواجهة ومشافهة، فهذا مجاني دون مقابل، ليس من شركة تدرس وتنقب لتستثمر في عيوبنا، وتأخذ مقابل النصح من جيوبنا. وقد قال الأصمعي من قبل:
النصحُ أرخص ما باع الرجالُ فلا
ترددْ على ناصحٍ نُصْحًا ولا تَلُمِ
إنَّ النصائحَ لا تخفَى مَناهِجُها
على الرجالِ ذوي الألبابِ والفهمِ