المتأمل في تاريخ الثقافة العربية بعامة والسعودية بخاصة يستطيع أن يتبيّن الدور المفصلي الذي نهضت به هذه الصحافة، منذ أن صدرت صحيفة (الوقائع المصرية في الثلث الأول من القرن التاسع عشر عام 1828م، وكانت علامة فارقة في تطويعها للغة ومقاربتها للطلائع الأولى للنهضة وبناء الدولة الحديثة التي شهدت بواكيرها الأولى بعد انتهاء الحملة الفرنسية وحملة فريزر البريطانية، وكان لها دورها في التأسيس للمشروع النهضوي؛ وغني عن التعريف بما اضطلعت به من دور كبير في تشكيل الوعي الثقافي إبان ذلك القرن الذي شهد حركات التأصيل للفكر الإسلامي الناهض، عبر حركة الشيخ محمد عبد الوهاب وما أفضت إليه من نشوء الدولة السعودية الحديثة بمنجزاتها التاريخية، في المجالات المختلفة وفي الثقافة على وجه الخصوص، التي سأتوقف عندها بعد حين، والحركة الدينية الإصلاحية في مصر التي قادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وكانت مجلة (العروة الوثقى) لسانها الناطق وصحيفة (التنكيت والتبكيت) التي أسّسها عبدالله النديم أحد رموز الثورة العرابية، وكذلك الحركة السنوسية في ليبيا والحركة المهدية في السودان، وقد بدا أثر الصحافة في التأسيس لوعي ثقافيٍّ يقظ فيما بعد أبعد أثراً وأعمق تأثيراً.
وكان للصحافة في بواكير عصر النهضة في لبنان وفي مصر التي أسّسها المهاجرون الشوام دورها الرئيس في تشكيل بنية ثقافية عربيّة تتماس مع قضايا الفكر؛ وإذا ضربنا صفحاً عن التتبّع التاريخي للصحافة لنتوقف عند مرحلتين مهمتين من تاريخ الصحافة في الوطن العربي والمملكة العربية السعودية فإننا سنجد أننا بإزاء حقبة بدأت في عقد الخمسينيات وازدهرت في الستينيات في كل من مصر ولبنان؛ وفي المملكة في عقدي السبعينيات والثمانينيات، إذا قفزنا عن المراحل السابقة التي مهدت لحدوث هذه الطفرة في الميدان الثقافي؛ ففي لبنان وقبل النكسة التي شهدتها بإغلاق ملحقي صحيفتي (المستقبل) و(النهار) عام 2015 كان للصحافة الثقافية تاريخها الطويل المتميّز منذ العهد العثماني والانتداب الفرنسي، فقد كانت جريدة (حديقة الأخبار) التي أسست عام 1858 على يد خليل خوري نقطة البدء، وشهدت الخمسينيّات الميلاديّة تطوّراً بارزاً في هذا المجال بعد تأسيس مجلة (الآداب) التي كان سهيل إدريس الروائي الشهير رئيسها، وكذلك مجلة (الأديب) و(مجلة شعر) التي أسّسها الشاعر اللبناني يوسف الخال 1957 وتوقفت عام 1970 م،وقد تأسّى الشاعر (عزرا باوند) في مجلته شعر التي كانت تصدر في شيكاغو، فكانت مجلته طليعية بالمفهوم الحداثي أفرزت تحوّلاً هائلاً في المفاهيم الأدبية الحداثيّة، فالتفّ حولها الشعراء: أدونيس ونذير العظمة ومحمد الماغوط وخليل حاوي وأسعد رزوق وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وعصام محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا وفؤاد رفقة، وكان همّها إحداث طفرة تجديدية وفق بيانها الأول، ووفق ما كان ينشر فيها، وعنايتها باختيار نماذج من الشعر الغربي، وأما مجلة مواقف فقد أصدرها أدونيس عام 1968م تحت شعار (الإبداع والحريّة والتغيير) وتوقفت عن الصدور عام 1994 م، وقد تداول على رئاستها كمال أبو ديب وإلياس خوري وخالدة سعيد، واستقطبت عدداً كبيراً من الشعراء والنقاد في الوطن العربي، وسارت على نهج مقارب لنهج مجلة شعر.
أما في مصر الستينيّات فقد ازدهرت الصحافة الثقافيّة على نحو غير مسبوق، فكان لكلّ فنٍّ أدبي مجلة: القصة والشعر والمسرح والفنون الشعبية، فضلا عن مجلة الكاتب والرسالة ومجلة (الطليعة) التي كان يرأسها لطفي الخولي ومجلة (الفكر المعاصر) التي أسسها زكي نجيب محمود معبّرةً عن الاتجاه الوجودي في الثقافة العربية، وهناك كتب عدة تناولت الصحافة الثقافية في مصر وفي العالم العربي لا يتّسع لذكرها المجال في هذه العجالة، ولعل مجلة (فصول) التي تخصّصت في النقد الأدبي من أهم المجلات الثقافية المعاصرة التي شكّلت منعطفاً مهمّاً في تطور النقد العربي الحديث؛ وكان للمجلات الثقافيّة التي كان من أشهرها مجلة (العربي) ثم تولّت المؤسّسات الثقافية الرسمية إصدار عدد من المجلات الثقافية أسهمت في تطور الثقافة العربية على نحو مؤثّر.
أما المملكة العربية السعودية فتميّزت بمنابرها الثقافيّة المتعدّدة التي تولت إصدار عدد كبير من المجلات والدوريات الثقافية أسهمت فيها - على نحو خاص- النوادي الأدبية والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، وقد شهدت الثمانينيات وما بعدها طفرة في الصحافة الثقافية تمثلت في صدور عدد كبير من الملاحق الثقافية للصحف اليومية والمجلات الأسبوعية مثل اليمامة واقرأ وغيرهما التي أفردت مساحات واسعة لنشر أعمال الشباب والقراءات النقدية وما أسفرت عنه النشاطات المنبرية من حوار محتدم حول الحداثة وغيرها من قضايا الثقافة التي انهمرت بغزارة، فضلا عن مجلات ثقافية ذات شأن، مثل المجلة العربية ومجلة الفيصل وغيرهما، وكذلك المجلات والدوريات التي تصدر عن الجامعات العديدة والكليات ومراكز البحوث ومختلف المؤسسات، مثل مجلة الحرس الوطني وغيرها.
وقد نهضت (ثقافيّة جريدة الجزيرة)المحتفى بها- بمناسبة ذكرى صدورها - بدور ثقافي متميّز تمثّل في مناقشتها لمختلف قضايا الثقافة والأدب، ونشرها للأعمال الأدبية شعرا وسردا وإفرادها لزوايا ومقالات دورية، يكتبها النقاد المعروفون والمفكرون وأصحاب الرأي في المملكة العربية السعودية، فضلاً عن المبدعين والمثقفين وإجراء الحوارات المتعددة مع أعلام ورموز الثقافة في المملكة وفي الوطن العربي، وحفاوتها بالروّاد والكتاب وتكريمها لهم، وإصدارها للعديد من الملاحق التي تتضمن ملفّات خاصة وقراءات نقدية مثرية، وذلك على مدى عقدين أو أكثر من الزمان، وما زالت تحتضن الأقلام الثرّة والمعروفة من الأكاديميين والمبدعين والنقاد والإعلاميين، ولعلّها تحظى من الجامعات ومراكز البحث بدراسات تنصفها وتميط اللثام عن دورها الكبير في الثقافة العربية.
تحية للثقافيّة ومؤسسيها ومحرريها وكتّابها والمشرفين عليها.
** **
- د. محمد صالح الشنطي