(1)
المثقفون، مثل الفعل، نوعان: لازم ومتعدٍ.
المثقف اللازم هو: الذي يحسّس متابعيه بأن الثقافة له، هو الذي يملك توزيعها على الناس أو احتكارها لنفسه.
المثقف المتعدي هو: محمد رضا نصر الله.
(2)
تعرفت على الأستاذ محمد، في البدايات، حين كنت أذهب إلى مقر صحيفة الرياض، وأنا طالب جامعي، متأبطاً مقالة لي لعلي أجد من يقبل نشرها.. ولو في الصفحة الأخيرة!!
في القسم الثقافي كان الكل يتحرك ويتحدث ويقهقه ويدخّن ثم ينفث دخانه «بطريقة ثقافية» تشعرك بأن الدخان يخرج من المخيخ وليس من الحلق!
فكرت للحظة بأن التدخين قد يساعدني، ليس في تسريع نشر المقالة فقط، بل وفي حبكها قبل نشرها. لكني وجدت شخصاً قابعا في مكتبه، لا يتحرك ويتحدث قليلاً ويقهقه نادراً ولا يكاد يدخن، لكنه كان يقرأ كثيراً، ما رأيته إلا ممسكاً بكتاب. سألت العامل، الذي يتردد بين «مخيّلات» القسم الثقافي بـ«القهوة التركية» مَنْ ذاك الرجل؟ فقال: محمد رضا نصر الله.
كانت تلك هي المرة الأولى التي أراه بعد أن قرأته كثيراً على صفحات (الرياض).
(3)
في سنوات لاحقة، أصبح أبو فراس مثقفاً تلفزيونياً عبر البرامج الحوارية التي اشتهر بها واشتهرت به.
صنع نصر الله انقلاباً في مفهوم البرامج الحوارية حينذاك، والثقافية على وجه الخصوص، إذ كنا نظن بأن البرنامج الحواري هو بين شخصين: أحدهما يلقي سؤالاً ثم يصمت، أو ينعس، حتى يحين وقت السؤال التالي. والآخر يجيب عن كل سؤال، واحداً تلو الآخر، كأنه في غرفة تحقيق! ثم يختم المقدم البرنامج بالسؤال الرتيب: هل من كلمة تود إضافتها في ختام هذا الحوار. وهي كما تلاحظون تشبه سؤال: هل لديك أقوالٌ أخرى!!
كان محمد رضا نصر الله شريكاً في الحوار مع ضيفه بالنقاش والأفكار والتحليل، إلى درجة إنك أحياناً لو فتحت البرنامج من منتصفه لم تعرف من هو الضيف منهما!
لم يكتف نصر الله بمحاورة رموز الأدب والثقافة السعودية، بل استضاف في برامجه الحوارية أبرز وجوه الأدب والفن والثقافة العربية مثل: محمد أركون وعلي جواد الطاهر وإحسان عباس ونجيب محفوظ وعبد الحليم حافظ والبياتي وأدونيس. ثم انفتح في حواراته على الثقافة العالمية فكان من ضيوفه: الأمريكي المثير للجدل صموئيل هنتنجتون وكاسر الصمت بول فندلي، والمستشرق الفرنسي العتيد جاك بيرك، وغيرهم كثير.
قلت لو يوماً: لو كلّفتَ أحداً بنسخ مجموعة حواراتك ونشرها لقدّمتَ للمجتمع موسوعة شاملة للأفكار والمفكرين في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي شهد خضّة شديدة من التحولات السياسية والدينية والثقافية، ما زالت المجتمعات العربية تترنح من ارتدادتها.
(4)
لحسن الحظ أننا «نرثي» الصديق محمد رضا نصر الله في هذا الكتاب، وهو مازال حيّاً بيننا.
ولهذا الرثاء المبكر ميزتان:
الأولى: أن يعلم بعض مشاعرنا الممتنة حياله،
الثانية: أن يستطيع تدارك الوقت لإنفاذ بعض مطالب الأحباب والأصدقاء حيال إرثه الثقافي الوفير.
** **
- د. زياد الدريس