الصوت
لا يكف هذا المسن عن الدوران في الطرق، لا يتفوه ولا يقف يمضي صموتاً مطرقاً رأسه الملفوف بشال صوفي يُخمِّر به أذنيه شتاء وصيفاً، لا يُعرَف له اسم ولا مثوى، نَجَمَ عن حجارة الشوارع، لم يُنْسَل مثل ناقة ثمود، تقولها وتستغفر الله. اشتهر بوجله من الأصوات؛ فصار أُلْهُوَّةً للأولاد، يصدر أحدهم صوتًا ما ليبدأ فصل الملهاة؛ رجل يضع يديه على أذنيه ينقز ويصرخ. حضرتْ هذا العرض الهزلي مرات معدودة في ذهابها وإيابها، أوجعها إيلام الرجل الكبير، وانبساط الأولاد حوله بتوليد المزيد من الأصوات. لم تكن الأصوات مرعبة ولا مفزعة، أصوات عادية مألوفة. تستاء وهو يقفز ويصيح ويُغلِّف رأسه بكلتا يديه.
لمحته ذات فجر صيفي خانق معتم بالزرقة من شرفتها راقدًا يتوسد قطعة كرتون فوق عتبة أحد المحلات في الجهة المقابلة، واضعًا فوق شاله الخشن واقِي أذنين شتويًّا من الوبر، تأملته؛ استبصرتْ طفلًا في قرى شمال غربي البلاد، تمر العربة بالقرب من نافذة غرفته، يسمع حزيز أخشابها وصرير عجلاتها تُجَرُّ على الدرب الترابي المليء بالحصى، وخشخشة قدمي صاحبها يسحبهما في تعرجاتِ وُعُورةِ الطريق صعودا وهبوطا. دَومًا تدعس هذه الأصوات أحلام سُباته فيفتح جفنيه على دجنةٍ تستلُّ أحلامَه فتَرُمُّها أشباحا وعفاريت، وفي أحيان كثيرة يبول في فراشه رهبا وروعا، لا يجرؤ على الاطلاع من النافذة ليشتاف المنظر، لكنه يعرف الرجل ويعرف عربة نقل الموتى؛ عربة مسطَّحة لها عجلات يوضع عليها الميت دون تابوت أو نعش يمنعهم الفقر وزَحْم الجثث، فلا وقت ولا مال عند أهل القرية لتجهيز موتاهم وإقامة المآتم، غايتهم النجاة بردم الحُفَر منازل مباركة يلقونهم فيها لا يُقاسون فيها وَصَبا ولا سقما، لا أحد يشيع جنائزه، إلى متى التشييع وهم يتحاتون أمواتًا عشيةً وضحاءً بالأوبئة والأمراض المعدية؟! الموت كآفة الشجر يتفشَّى ويتغطَّى ليلًا بلحافٍ واحدٍ مع كل نائم في القرية، فإذا لم يُرفَع الغطاء نهارا؛ خرج حفار القبور بصاحبه وقت الغسق، في هَدْأَة الطرقات وخُلُوّ الشوارع، سالكًا به مَعبرًا تنتهي به حدود القرية، ويجثم فيه بيتٌ يَنْسِمُ من نافذته من شدة الهلع صُنانُ البول وسهكةُ العرق، بعده تشخص نصائبُ مقابر أهل الأديان المختلفة وشواهدُها.
أغلقت باب الشرفة وهي تسخر من تولُّده من حجر، يا لسخافة شطحات خيالها! وهل الأحجار تتفتت من الأصوات؟!
المهاجر
سمعت حكايات الكثير من القرويين الذين هجروا قراهم إلى المدينة تاركين أحبابهم ومتناسين ذكرياتهم، دافنين بصحراء أرواحهم اخضرار منابت طفولتهم، ومفارقين صدورًا احتضنتهم ووجوهًا تبادلت معهم الابتسامات والدموع. قابلتْهم في زوايا المدائن وهوامشها وعشوائياتها، سِيرهم تتكرر، وفي كل مرة يتردد صوت جدتها ويتداخل مع همسهم الأليم وهم يسردون قصصهم.
مدينة ساحلية وادعة تطل على البحر الأحمر، مدينة نقية الهواء، متنائية عن لجب الآلات وعجيج البشر، مدينة عسكرية، سكانها ضباط ورتب، تنتشر فيلاتهم ونواديهم على مسافات مترامية، بها القليل من العمائر المشغولة بالعابرين غير المقيمين؛ ومع العابرين حيث تقيم قعدت ذات فجر معتم بالزرقة والضباب بالقرب من زوج بواب العمارة تنتظر المركبة، تراقبها وهي تودع صغارها وتدس في حقائبهم شطائر رحلتهم إلى المدرسة، وَدَّعَتهم آملة لهم مستقبلًا يفوق ما كانت عليه في أقاصي قرى الجنوب تَجُرُّ -وهي في عمرهم- جاموسة كل صبح إلى الغيط وتؤول ظهرا متشققة القدمين جافة اليدين، هدَّها الجوع والركض في ساعات الأَصباح المَلِيَّة والحقول الشَّطُون، ظمأى في مكان لا منهل فيه للروح ولا للذهن والجسد. عندما تنهدت لتبدأ رواية حكايتها اختلط صوت القروية بصوت جدتها، وأخيرا طغى صوت جدتها تروي قصة العاشق المغترب الذي آب يتأمل الأطلال ويتذكر لحظات الانفلات:
كل شيء تغطَّى بهُباب الأرواح المحترقة بجوى الفراق بعدما انفرط من شكوى الخواء، يرى ظلاله مرسومة على الأرض، فوق الجدران، عند مداخل الأبواب المشرعة. يتجلَّى في كل منحنى طفلٌ، له ملامحه، رافعًا رأسه ترصد عيناه حركةَ طيران الحمام فوق السطوح. يناديه بلا صوت، يرى في ناظريه بيتًا ضيق الحجرات، فيه سبعة إخوة وأبوان. تَبَدَّى في ساحةٍ ترابيةٍ مهجورةٍ يافعٌ في حلقة عِلْمٍ يخط على اللوح رسائل حب بدل الدرس. طنين ينخر رأسه... عصف الريح بات مسموعا يتجول كيفما شاء، يعبر النوافذ والفُرجات ناثرًا بذور الوباء ملقِّحًا بها ليالي الشتاء الأبدي يستزرعها في كل الاتجاهات المظلمة والبؤر الرطبة لتَنْبُتَ أكفانًا بيضاء.
تظهر في كامل حليها عند رؤوس الحارات، تنأى كلما اقترب، يتعقب خطواتها الحاثَّة، تشير إليه بإصبعها المخضبة كلما انعطفتْ في ممرات الحارات أو وَلَجَت الأبواب: أن اتبعني! يلحق بها، يتسلل وراءها المن افذ ويتوغل في المساكن ويتأكد أن قدميها الحافيتين مخضبتان بالحناء وليس دمًا يرسم بقعًا خلفها من أثر هيجان نوبات السعال، يتذكرها ملفوفة ثم مدحرجة بحفرة مكتظة بأكداس الأجساد، يتذكر ذرات التراب المُهالة عليها ورشقات الماء المرشوشة على تربتها.
يغيب الطفل الغارق في رَصْد الأجنحة عن المُخيِّلة، وتشرق مكانه الشمس طافيةً فوق السماء. تغفو الرضيعة الممسكة بزجاجة الحليب في سكون ظلمة الذاكرة، ويصحو مكانها الأفق ضاجًّا بالألوان. تتراجع المرأة المُتربِّعة الملفوح وجهها بقِدْرِ البطاطا المغليةِ في مرآة الروح، ويتقدم مكانها الموج البارد مبددًا بخار الأزمنة التعيسة وكاسرا زجاج الأمكنة الضيقة؛ الموج الذي سيركبه اليافع محلقاً به فوق المنازل التي تذوب رويدا رويدا متوحدة بالتراب، يجتاز به شوارعَ مديدة كلما جاوزها حالت إلى ضبابٍ نتيفٍ، تشيعه رائحة الحارات العتيقة العالقة في ذرات الهواء قبل أن تتساقط سائلًا يجرف أراضيه. يربط ذراعيه بأطراف أجنحة فارة للتو من بيوت باكية يُسمَع لأهلها أنين الوداع، وتأوهات الحنين.
** **
- د. سعاد فهد السعيد