عبدالإله بن ناصر الخريف
تشهد المملكة العربية السعودية نقلة نوعية وتقدمًا كبيرًا في تهيئة البيئة الاستثمارية الجاذبة عبر إصدار تشريعات جديدة وتطوير الأنظمة القائمة؛ وذلك لتحقيق تطلعات رؤية المملكة في تكوين اقتصاد متين ومتنوع وجاذب للاستثمارات المحلية والأجنبية. وتدل الجهود الكبيرة المبذولة في تحديث الأنظمة وترابطها على كفاءة المنظومة التنظيمية والتشريعية في المملكة، ومواكبتها للحاجة لتغيير الأنظمة بما يتناسب مع التطورات المتسارعة في الاقتصاد العالمي نتيجة للتقدم التقني وارتباطها بالاتفاقيات بين الدول والمنظمات الدولية. وقد أثمرت جهود المملكة المميزة في تقدمها في المؤشرات الدولية، ومنها تبوؤها المركز الثاني على مستوى دول مجموعة العشرين في تقرير التنافسية الرقمية لعام 2021م.
ويلحظ المتابع لتقدم المملكة في المجال التنظيمي أنها تعمل وفق نسق غير مسبوق، وبرؤية موحدة، تسهم الأنظمة واللوائح في تحقيقها، وتتعاضد فيما بينها لتحقيق التكامل التام؛ ولذا شهدت المملكة في عهدها الزاهر إصدار عدد كبير من الأنظمة وتعديل أنظمة أخرى يفوق ما صدر من أنظمة وتعديلات منذ تأسيسها؛ مما يعكس تطلع الدولة نحو دولة قانون، وتوفير بيئة تحتكم إلى أنظمة ولوائح في أعمالها، في مختلف المجالات.
وفي ظل ذلك التسابق نحو اكتمال المنظومة القانونية يأتي تطبيق مبدأ البيئة التجريبية التشريعية (regulatory sandbox) في الجهات الحكومية فرصة تتيح للدولة تعظيم استفادتها من الكفاءات الوطنية المؤهلة في تطوير منظومة التشريعات في المجالات التجارية والاقتصادية والاستثمارية والعقارية والقضائية، بحيث يتاح لكل جهة فرصة تطبيق أي نظام جديد في بيئة محددة، مع قياس تأثيرات تطبيق ذلك النظام في تلك البيئة، ومقارنته بالوضع السابق لتطبيقه، وكذلك الوضع المتزامن في تطبيقه مع النظام السابق المستمر تطبيقه في بيئات أخرى، بحيث تتماثل جميع الظروف والمؤثرات؛ فيتضح تأثير النظام الجديد الذي يتم تجريبه، وسلبياته وإيجابياته، وفي الوقت نفسه يتيح للجهات الأخرى مراقبة ذلك النظام، ومعرفة اتجاه الجهة في إقراره، مما يؤدي إلى مراعاته عند صدور تشريعات جديدة من تلك الجهات. كما يسهم ذلك في قدرة الشركات الاستثمارية ودراسات الجدوى في توقع مستقبل الاستثمار والمؤثرات فيه؛ فيجعل بيئة الاستثمار في المملكة جاذبة متمتعة بالاستقرار وإمكانية التنبؤ بالمستقبل التنظيمي.
وينبثق من ذلك فوائد أخرى تأتي تبعًا، تتمثل في تقليل الحاجة إلى إعادة دراسة الأنظمة أو الإجراءات بعد إقرارها. بالإضافة إلى إمكانية تقديم دراسات جدوى اقتصادية أو استشراف مستقبل الأنظمة في المملكة، ونحو ذلك من آثار إيجابية، ينعكس أثرها على بيئات الأعمال والاستثمار.
تجربة مختبر البيئة التجريبية التشريعية
ظهرت فكرة إنشاء مختبرات البيئة التجريبية التشريعية (regulatory sandbox) في البنوك المركزية وهيئات السوق المالية في الدول المتقدمة كأمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي؛ نتيجة لتطور التقنية والابتكارات المتصلة بالصناعة المالية، التي لا تنسجم طبيعتها مع الأنظمة التقليدية في القطاع المالي. ولذا كانت تجربة البنك المركزي السعودي (SAMA) وهيئة السوق المالية (CMA) فريدة من نوعها في دعم وتطوير منتجات التقنية المالية (FinTech) عبر مختبرات البيئة التشريعية التجريبية؛ التي تهدف إلى إصدار تشريعات ذات طبيعة مؤقتة تتناسب مع طبيعة هذه الابتكارات الحديثة، ومن غير الإخلال بحماية المستثمرين والمستفيدين، ومُحققةً لتطلعات الدولة -حفظها الله- في تطوير الصناعة المالية ودعم الأنشطة التجارية، مع المحافظة على استقرار النظام العام والاقتصادي للدولة. فقد أتاحت الهيئة والبنك المركزي مناخًا استثماريًّا وتشريعيًا مميزًا للشركات المرخصة تجريبيًا في قطاع التقنية المالية؛ إدراكاً من الهيئة والبنك المركزي ضرورة إيجاد بيئة مرنة وغير معقدة في تجربة الابتكارات التجارية الجديدة دون إعاقة تطورها عبر إضافة التزامات أو اشتراطات تؤثر على مسيرتها أو تحدث أثرًا سلبيًا اقتصاديًا. وبعد اكتمال التجربة يتم إصدار التشريعات المناسبة وفقاً لتجربة الإطار القانوني المبدئي، وبما يحقق تعظيم الاستفادة من الأنشطة التجارية بشكل فعال الذي ينعكس إيجابًا على اقتصاد المملكة ومكانتها دوليًا.
المقترح
نتيجة لنجاح تجربة البيئة التشريعية في البنك المركزي السعودي وهيئة السوق المالية في تطوير القطاع المالي في المملكة بشكل مرن وسلس ومتوافق مع التجارب الدولية، فقد يكون من المناسب النظر في التحول من النمط التقليدي في إصدار الأنظمة في المملكة إلى نمط حديث يـُحقِّق التوازن والترابط والتحديث التدريجي للأنظمة، لاسيما التجارية والعقارية والقضائية، بما ينسجم مع رؤية المملكة في دعم قطاع الأعمال وتحسين البيئة الاستثمارية للمستثمر المحلي والأجنبي. ولذا يُقترح تطوير منظومة التشريعات في المملكة عبر إنشاء وحدة مختصة للتشريعات (regulatory sandbox) في كل وزارة وهيئة حكومية بإشراف عام من قبل هيئة الخبراء بمجلس الوزراء مثلاً أو لجنة عليا تشكل لذلك الغرض. على أن يكون دور وحدة التشريعات وضع إطار قانوني تجريبي لمشاريع الأنظمة على منطقة أو مناطق مختارة من المملكة، وتجربة مشروع النظام وتقييمه والتعديل عليه وتطويره تدريجيًا بما يتوافق مع أفضل الممارسات العالمية ومواءمتها مع طبيعة أنظمة المملكة ومكوناتها الاقتصادية. وستتيح فترة تجربة التشريعات الفرصة للجهة المختصة -والجهات الحكومية ذات العلاقة- بأن تتفادى الثغرات القانونية، والآثار السلبية اقتصاديًا واجتماعيًا التي قد تظهر خلال تلك الفترة التجريبية. بالإضافة إلى إتاحة الفرصة لكل جهة لمعرفة ما لدى الجهات الأخرى من اتجاهات لتطوير أنظمتها لتستفيد من ذلك في تخطيطها لتطوير أنظمتها، فيتحقق بذلك تكامل نوعي عند صدور الأنظمة الجديدة بين الجهات الحكومية المختلفة. وبعد اكتمال الفترة التجريبية يتم عرض مشروع النظام أو الأنظمة بصيغة نهائية ناضجة ومنبثقة عن تجربة عملية للنظام - وبمشاركة الجهات ذات العلاقة والمستفيدين- للسلطة التنظيمية (مجلس الشورى، ومجلس الوزراء) لاعتماده.
إن مكانة المملكة المرموقة عالميًا، وخططها الطموحة في تعزيز مكانتها السياسية والاقتصادية والتقنية يحتم على الجهات الحكومية أن تبتكر وتطور منظومة التشريعات بشكل متكامل مع بعضها البعض، وبما يحقق نضوج وتكامل للأنظمة داخل الدولة، ومواكبة تطلعات القيادة الحكيمة، حفظهم الله.