عبدالوهاب الفايز
بينما كنت أبحث عن نهاية جميلة لهذه المقالات، جاء الخبر: الإعلان عن مدينة الأمير محمد بن سلمان غير الربحية.
وقلت: هذه (مدينة الصناعات الأساسية الإنسانية). كما بدأت الجبيل وينبع وكما هما تتألقان في حياتنا الآن، ستكون المدينة الجديدة حاضنة الصناعات الإنسانية والخيرية التي نحلم بها. والإعلاميون الذين يتطلعون إلى خدمة بلادهم، عبر مشروع إعلامي غير ربحي، الآن تتاح لهم الفرصة، ولعل أولى مبادرات هذه المدينة تحقق حلمهم عبر إطلاق شركة وطنية توجد (المظلة الإعلامية) لبلادنا.
كما ذكرنا في المقال السابق، الذين لا يعرفون طبيعة العمل الإعلامي المحترف وطبيعة حراكه يخلطون بين أولويات الإعلام الخارجي والداخلي. النجاح الحقيقي المستدام وغير المكلف لبناء الصورة الذهنية الخارجية للدولة تبدأ من قوة إعلامها على الجبهة الداخلية الذي يعكس نجاحها في التنمية الإنسانية أولًا، ثم تقدمها التنموي.
الاستراتيجية الإعلامية الناجحة للدولة لها أهدافها الثابتة، ويتقدمها بناء وتمكين الموارد البشرية القادرة على صناعة النجاح للإعلام الداخلي. في العقود الماضية، الدول الكبرى نجح إعلامها الخارجي لأنه يغرف من المحتوى المحلي الضخم. هنا تصبح الجهود الإعلامية الخارجية قيمة مضافة، وليس عبئًا ماليًا مستدامًا يستنزف موارد الدولة بدون أثرٍ واضح. انظروا كيف بدأت أمريكا بناء إعلامها الخارجي قبل خمسين عامًا.
وكالة الإعلام الأمريكية يذهب أغلب تمويلها لشراء الأفلام والمسلسلات الأمريكية، ثم تقوم دبلجتها وترجمتها وتوزيعها مجاناً، أو بيعها بأسعار زهيدة. وهذه كانت أفضل وسيلة لتعزيز النفوذ الثقافي الأمريكي وترويج قيم الحياة الأمريكية عالمياً. لم تبدد مواردها على شركات الاستشارات والعلاقات العامة لتسويق صورتها الذهنية، وحتى شبكة صوت أمريكا تذهب أغلب نفقاتها إلى الشعب الأمريكي، أفرادًا أو شركات متعاقدة متخصصة في إنتاج المحتوى الإعلامي. أيضًا تنظم البرامج السنوية المستمرة للإعلاميين حول العالم لزيارة أمريكا في إطار برنامج الزائر الدولي. كذلك تفعل أغلب الدول الكبرى لتسويق صورتها الخارجية.
الإنفاق على الإعلام المحلي مفتاح تفوق واستدامة للرسالة الإعلامية الخارجية. والآن أهم عنصر في صناعة الإعلام هو بناء الموارد البشرية المحترفة ذات المهارات المتعددة للتعامل مع مختلف الوسائل والإعلامية والمنصات الاجتماعية. شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تولت الاستثمارات في البنية الأساسية الإعلامية، وهذا الذي يجهله قيادات الإعلام المحلي. اعتقدوا أن نهاية الورق هو نهاية التاريخ لمهنة الصحافة!
الآلية العملية والمناسبة والضرورية لتنمية الموارد البشرية الوطنية في الوقت الراهن، لمواجهة التحديات الحالية واستعدادًا للمستقبل، نراها في الشركة أو المؤسسة الإعلامية غير الربحية التي اقترحناها في الحلقات الماضية عبر نموذج شركات الاستثمار الاجتماعي. (للبعض الذين لم يفهموا ماذا نقصد: شركات الاستثمار الاجتماعي نموذج عملها يقوم على تحقيق الأثر الخيري والإنساني والوطني.. ثم تحقيق الأرباح لأجل الاستدامة المالية وتوسع ونمو الأثر).
الاستعداد للمستقبل قضية وجودية، فحروب المستقبل سيكون الجزء الأكبر منها حروب ثقافية وفكرية، ونفسية، ووسائل التواصل الاجتماعي هي سلاحها وأدواتها الفعالة. وهنا يأتي أهمية تأهيل وتدريب وتمكين القيادات الوطنية المؤمنة بمصالح بلادها العليا في منظومة الإعلام السعودي الذي ننفق عليه من موارد بلادنا المالية. بناء قاعدة القيادات ضروري لأنها هي التي سوف تحمي مجتمعنا من الاختراقات، وهي الأدرى بمصالح بلادها والأكثر حماسًا للدفاع عنها.
كيف نبني القادة؟ أمامنا تجربة الجيوش لتخريج القادة. في بلادنا نجحنا عبر كلية القيادة والأركان في بناء مركز إمداد مستدام للكوادر المحترفة في مهارات القيادة، والواعية لمتطلبات الأمن الوطني، والمدربة على استخدام الأدوات العلمية الموضوعية لتحليل المخاطر والاستعداد لكل الاحتمالات. نحتاج الاستفادة من هذه التجربة الوطنية لقواتنا المسلحة لإنشاء كيان أكاديمي متفرغ، أو (على المدى القصير السريع) تطوير برنامج للقيادات الإعلامية تحتضنه كلية القيادة والأركان حتى يتم إنشاء الكيان الإعلامي الذي نتطلع إليه بكل منظومته الضرورية، وأمامنا فرصة مبشرة وتاريخية لقيام هذا الكيان الإعلامي الخيري في (مدينة الأمير محمد بن سلمان غير الربحية) التي ستكون الأكبر من نوعها في العالم. فهذا المشروع الإعلامي لإعداد القيادات سوف يجد فرصته المستدامة في هذه المدينة.
لماذا نحتاج كياناً متخصصاً للقيادات الإعلامية؟
في العقود الماضية انصب اهتمامنا على تخريج الكثير من الإعلاميين التنفيذيين، لكن لم نهتم بتأهيل قيادات الصف الثاني، ويتضح الآن حجم المشكلة بعد العديد من الحالات التي كشفت خطورة غياب الكوادر القيادية السعودية في منظومة الإعلام. نحتاج كياناً اعتبارياً يطور برنامجاً متخصصاً لتأهيل القيادات في مدة لا تقل عن سنتين بالتعاون مع المركز العالمية المتخصصة، حتى نخرج كوادر تدير المنشآت الإعلامية.
إذا لم نبادر وفضلنا الاستمرار في (إدارة الأزمة)، ولم نؤسس البنية القيادية للقطاع، فالمبادرة للدفاع عن بلادنا سوف تنتظر قوات التدخل السريع للمواطنين كما فعلوا مراتٍ سابقة. طبعاً أمر طبيعي أن يدافع الناس عن بلادهم ووجودهم. ولكن ثمة مهددات للأمن الوطني يحتاج التصدي لها العمل المؤسسي المحترف والمبادر والاستباقي.
مؤسف ومؤلم أن نرى توفر البنية الأساسية في وزارة الإعلام وفي بقية القطاعات الحكومية والخاصة على أفضل مستوى تقني.. ولكن هذه لم تخدمنا. نتفرج على هذه الإمكانيات المتاحة.. ونتألم!