عطية محمد عطية عقيلان
من القصائد البليغة والفصيحة والمليئة بالحِكم والعِبر، وتصف ما يمر بنا في الحياة، قصيدة «لكل شيء إذا ما تم نقصان»، وهي لأبي البقاء الرندي، وهو شاعرٌ أندلسي من قبيلة رنده البريرية، وكان من القضاة وله علم بالحساب والفرائض، وله قصائد في الزهد وتآليف أدبية ومقامات في أغراض شتى، ألَّف مختصرًا في الفرائض وآخر في صناعة الشعر سماه (الوافي في علم القوافي)، تبدأ هذا القصيدة بهذه الأبيات:
لكُلِّ شَيءٍ إذا ما تَمَّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إنسان
هِيَ الأمورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرَّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
وكان سبب انتشارها وغيرها من القصائد أو الروايات، ما تحمله من الفصاحة والتميز والبلاغة في اختيار الكلمات، وكانت وسط منافسة شديدة لتحقيق النجاح والتميز والشهرة، وفي كل حقبة زمنية كان هناك مشاهير على جميع الأصعدة سواء في القتال أو الشعر أو الرواية أو الحكمة أو الفن أو الرياضة....، ومن أشهر الكتب التي تُرجمت إلى العربية «كليلة ودمنة» لابن المقفع والذي يعتبر من أكثر الأعمال جودة وانتشارًا، ويقال إنه من أوائل من ترجم من الفارسية والهندية، واحتوت على 15 باباً واستخدم في شخصياتها الطيور والحيوانات، إلا أن نهاية ابن المقفع، مؤلمة حيث اتُهم بالزندقة والإلحاد وتم تقطيع جسده وقتله، وطالت هذه التهم الكثير من المبدعين في العلم والفلسفة والأدب، كالفارابي والرازي والجاحظ وابن رشد، وكما حدث في أوروبا عند إقامة محاكم التفتيش في القرن الـ 13 الميلادي، وتم إعدام وحرق العديد من الفلاسفة والأدباء مثل جوردانو برونو في القرن 16، وفي عصرنا هذا لم يسلم مفكرون وأدباء من التهم والدعاوى، كالقصيبي وطه حسين ونجيب محفوظ، مع فارق أن الاتهام لم يكن سوى مناكفات صحفية وقضايا ولم تصل إلى حد الحرق والقتل.
ومع ثورة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، ظهر نمط جديد من المشاهير، وتغيرت مفاهيم النقد أيضاً؛ لأنها في الغالب لا ترتكز على إرث تستطيع دراسته، لأن تاريخهم قد يكون كلمة أو حركة أو نظرة أو طريقة مشي ولبس... فالشهرة أصبحت متاحة للجميع ولكافة المراحل العمرية، كل ما تحتاجه تصوير من كاميرا هاتفك، مع تعليق أو لزمة أو ردة فعل ونشرها على هذه المواقع، وإذا وجدت صدى وترويجاً وتداولاً بين المتابعين، ستجد نفسك بين ليلة وضحاها شخصية مشهورة معروفة يطلق عليها «مؤثر»، وإن كان السبب سخيفاً أو تافهاً أو مقلباً مصطنعاً أو حركة مضحكة، المهم أن تلاقي الرواج والتداول وتحقق «الترند»، فلا تستغرب من انتشار أغنية «بسبوس عاشق بسه»، بل ممكن أن تتحقق الشهرة بدون أن تنطق بأي كلمة كما حدث مع الشاب السنغالي كابي لامي المقيم في إيطاليا، وحقق انتشاراً واسعاً خلال أيام، فقط من خلال حركات يديه وتعابير وجهه الساخرة دون أي كلمة، واستطاع جذب ملايين المتابعين، واحتل المركز الرابع في الأكثر شهرة في تطبيق التك توك، فلا نستغرب عند مشاهدة طبيباً يرقص في غرفة العمليات، أو كبيراً في السن يتقبَّل المقالب لإضحاك الناس وجذبهم، ولا تنصدم بنجمك الرياضي الرزين أو الفنان الكبير وهو يقوم بتصرفات لا تناسبه، المهم الشهرة والانتشار، دون تعب أو اهتمام أو معايير على المحتوى، وتطبيقهم المثل «اللي تغلب به العب به»، وأصبحنا نقوم ونرى تطبيقاً عملياً للنظرية الميكيافلية سواء بقصد أو بدون قصد «الغاية تبرر الوسيلة»، وقد نشهد قريبًا فرعاً لجائزة «وذ نوبل» ويحالف الحظ «بسبوس عاشق بسه» بالفوز بها بعد منافسة مع أغنية «عشرة كوتشينه في البلكونة»، ولنتقبل ما يحدث في منصات التواصل الاجتماعي والمشاهير، بصدر رحب، وليس مطلوباً منا النقمة والتحلطم عند نقدهم، وندعي المثالية لأننا لم نحقق الشهرة فيها ونتحسر على ما قدمناه للبشرية بدراستنا وعملنا لأننا فقط في الناهي «وذ» فلسفة.